آخر الاخباراتصالات و تكنولوجيااقرأ لهؤلاء

د. أشرف عيد العنتبلي يكتب: الجوار في العصر الجاهلي

بوابة الاقتصاد

الجوار في العصر الجاهلي
د. أشرف عيد العنتبلي،دكتوراه في التاريخ والحضارة الإسلامية
المجتمع الجاهلي لا يعترف إلا بالقوة، ولا يعتد إلا بالحسب والنسب ، ويحكمه تقاليد وأعراف منها ما يعلي من قيمة الإنسان كالجود والكرم وصلة الأرحام وحفظ الجوار، ومنها ما هو مذموم مرذول كعبادة الأصنام وشرب الخمر وانتشار البغاء، وغيره من الفواحش التي نهى عنها الإسلام.

العنتبلي
العنتبلي


والنظام الاجتماعي في الجزيرة العربية قبل الإسلام قائما على قوة البطش وسطوة أصحاب النفوذ، وسيادة القوي على الضعيف، وكثرة الاعتداء والسلب والنهب والحرب المستعرة بين القبائل بين الحين والآخر طلبا للثأر وأسباب أخرى؛ وهو ما أدى إلى انعدام الأمن في كثير من الأحيان؛ فاشتدت حاجتهم إلى الأمن والاستقرار وإلى نظام يلجأ إليه الضعيف ليحميه من بطش القوي، وينتصف للمظلوم من الظالم.
كانت القبيلة في هذه البيئة هي الوحدة السياسية والاجتماعية في بلاد العرب؛ حيث كانت تمثل مدينة لها نظام وقوانين خاصة، وكان العرف القبلي هو القانون الذى يسير الجميع وفق نظامه، والأسرة هي وحدة بناء القبيلة، والمرأة هي وحدة بناء الأسرة.
*مفهوم الجوار.
الجوار في الجاهلية يقصد به:”حماية الضعيف ونصرته ومعونته إذا عجز عن حماية نفسه وماله ” وهو خصلة ومكرمة وفضيلة اشتهر العرب بها، وجعلوا احترامه والعمل به قانوناً وتقليداً اجتماعياً راسخاً يجب احترامه من الجميع ولا يجوز انتهاكه، أو الخروج عليه، وأشاد به الإسلام، ووردت آيات القرآن تحض عليه، وكذلك السنة المطهرة.
ويدور الجوار حول معنيين، الأول: مُجاوَرةُ الناس بعضهم بعضًا، والثاني: إيواء الضعيف المستجير بتأمين مخافته، وتوفير الحماية والأمن له، ورد العدوان عنه ونصرته حتى يبلغ مأمنه مطمئنًّا على نفسه وأهله وماله وتقدمه كذلك امرأة لها مكانة في قومها، أو جماعة أو قبيلة لمن يحتاجه.
لقد كان قانون الجوار من أكثرِ قوانينِ المجتمع الجاهلي احترامًا وتقديرًا، وأشادوا به في أشعارهم، وأوصوا أبناءهم بمراعاته واحترامه، ويقوم الجوار في المجتمع الجاهلي بالدور الذى تقوم به مؤسسات الدولة المعاصرة في حفظ أمن الفرد وعرضه وماله وتقديم الرعاية الاجتماعية.
والجوار يعد دليلًا على قوة المجير وسيادته في قبيلته، فيذعن الجميع لجواره ويحفظ عهده؛ فالاعتداء على المجاور اعتداء على المجير وإهانة واستخفاف به، وهو ما تأباه نفس العربي، فسرعان ما يكون رد السيف هو المناسب على تلك الإهانة.
وإحسان الجوار -على كلِّ معنى من معانيه- في الذِّروة من معالي الهِمَم ومكارم الأخلاق، وكان العرب في الجاهلية يدافعون عن الجوار، ويَمنعون مَنْ استَجار بهم ممَّا يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وكانوا يقولون في معرض الفخر والثناء: فلانٌ منيع الجار، حامي الذِّمار، ومن طرائف الجوار أن الأعشى الشاعر طلب من علقمة بن علاثة أن يجيره من الإنس والجن، فقبل، ثم طلب منه أن يجيره من الموت فحار واحتار، ومن المبالغة أيضا أنها كانوا يجيرون الطيور حتى تحط رحالها على نحو ما منح أحدهم الجراد جواره عندما نزل بأرضه، وأراد ناس أن يصطادوه، فركب فرسه وأخذ رمحه وقال: والله لا يعرضن له أحد منكم إلا قتلته، إنكم رأيتموه في جواري ثم تريدون أخذه، فلم يزل يحرسه حتى حميت عليه الشمس وطار، فقال: شأنكم الآن، فقد تحول عن جواري.
وكانوا إذا أجاروا أشهدوا على ذلك في المواسم والأسواق، ويكتب له ورق عليه فلان جار فلان، وكانوا إذا خلعوا جوار رجل أشهدوا على ذلك في المواسم والأسواق لتكون في حل من جناياته، ولم يكن من السهل أن ينقض حامٍ ذمة عقدها لجار، فإنهم كانوا إذا غدر منهم أحد رفعوا له لواء بسوق عكاظ ليشهروا به.
وليس غريباً أن يكون هذا النظام – الجوار – أوّل ما نشأ في سبيل حماية الضّعيف من بطش القويّ، وإنصاف المظلوم من الظّالم، فاستطاع هذا النّظام أن يَحدّ من شهوة البطش، وغريزة الانتقام.
والمرأة مثل الرجل في الجوار، فقد تجير امرأة لها شرفها ومكانتها في قومها، فيمضي قومها جوارها ويحفظون ذمتها وعهدها لمن أعطته، بل ويدافعون عن حقوق من أجارته؛ فقد أجارت ريطة بنت جذل الكنانية دريد بن الصمة وكان أسيراً في قومها، فقبل قومها إجارتها لدريد وأطلقوا سراحه، وريطة هي ابنة سيد قومها وزوج فارسهم ربيعة بن مكدم ولعل في ذلك ما يفسر قبول قومها بإجارتها لأسيرهم.

  • دواعي الجوار وأهميته.
    إن البحث عن الأمن والبعد عن الحروب والعدوان وقتا في العام أمر ضروري، وفي سبيل بحث العرب عن الأمن والاستقرار لجئوا إلى المقدسات ليسود فيها الأمن، فجعلوا الكعبة وما حولها مكاناً آمناً؛ واختار العرب وقتا من العام يضعون فيها السيف؛ فيمتنع فيها الجميع عن القتال؛ فجعلوا من أشهر السنة أربعة أشهر “حرم”- ثلث العام – يحرم فيها القتال ويأمن فيها الناس، وعظمت حرمتها، وسُمي ما وقع فيها من حروب بـ” الفجار” تقبيحاً لها وتنفيراً.
    وللجوار أسباب دفعت إليها، ومنها:
    ـ وجود ضعفاء ومظلومين وخائفين قد يتعرضون للإيذاء؛ فيطلبون الجوار ليأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وهو بمثابة الرادع الذي يحد من غطرسة القوي، ويقلل من عدوان الظالم على من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وقد يكون طالب الاستجارة أسيراً ينشد الفكاك من الأسر، فيجد من يسمع نداءه، ويسارع إلى إجارته وفدائه.
    ـ انتقال الرجل من دياره إلى ديار أخرى حتى لو كان قويا شجاعا في قومه معظما بينهم؛ فلا يجد بداً من أن يستجير بمن يستطيع أن يقدم له العون في المكان الذى ينزل فيه، فالمغترب عن دياره ضعيف في غربته.
    ـ قد يجد الرجل نفسه في بعض الظروف عاجزاً عن توفير الحماية لأهله وماله، خاصة إذا قامت حرب بين قبيلته وأخرى؛ فيطلب الدخول في جوار آخر يستأمنه على أهله وماله.
    ـ وقد يكون بعض المستجيرين سادة قبائل رفضوا الاشتراك في حروب قامت بين أبناء عمومتهم؛ ففي الحرب التي احتدمت داخل طيئ آثر بعض السادة اعتزال تلك الحرب، فتركوا قبائلهم وعاشوا في جوار غيرهم، ومنهم حاتم الطائي الذي جاور بني بدر الفزاريين.
    ـ وقد تطلب قبيلة الدخول في جوار قبيلة أخرى طلبا للمرعى بعد أن أجدبت أرضهم؛ فكان بين بني فهم وبني صاهلة عداء، فأجدبت بلاد فهم، وخشوا على أنفسهم الهلاك، فجاءوا بني صاهلة، وقالوا لهم: أرعونا في بلادكم، وآمنونا حتى يقع بأرضنا غيث، فإن الأيام عُقبٌ، ولعلكم أن تبتغوا إلينا مثل ذلك يوماً من الدهر، وبعد حوار قيل لبني فهم: يا معاشر فهم، قد أجرناكم، فارعوا في أرضنا حيث شئتم.
    وقد يلجأ المجير إلى إنهاء الجوار لسبب من الأسباب كأن يشعر المجير بضعفه عن حمايته، أو يبرئ ساحته من أخطاء المجاور فيطلب ممن يجيره الرحيل، أو أن يطلب المجاور الإذن بالرحيل ليرفع عنهم الحرج أو ليعود إلى دياره ويظل للمجاور أمان ثلاثة ليالٍ تسمى خفرة الجار، وبعدها يحقّ لمن له عنده حق أو ثأر أن يأخذ حقه منه.
  • حقوق الجوار.
    1- صون عرضه ومراعاة حرمته: والجيران لهم حقوقه وعليهم واجبات فيما بينهم، فلا ينتهك جار عرض نساء جاره أو يسلبه ماله أو يتجسس على أحواله، وكان المجتمع الجاهليّ حريصاً على ذلك أشد الحرص، فما أكرم من محافظة العربي على نساء جاره !! وجاء شعرهم يحكي سموّهم عن عرض الجار وتعظيم حرمته حيث أوصى الأعشى ابنه قائلاً:
    ولا تـقْـربَـنّ جـارةً إنّ سِـرّهـا عليــكَ حَــرامٌ فانكحَـنْ أو تأبّــدا
    ويقول عنترة بن شداد في ذلك:
    وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مثواها
    ويذكره ابن حبيب في كتابه (المحبر) أن عمير بن سُلمى الحنفي أجار رجلا من بني عامر، وزوجته، وكانت جميلة، فكان أخو عمير يتحدث إليها حتى بلغ ذلك زوجها، فنهاها فلما رأى قرين ذلك وثب على زوجها فقتله، وعمير غائب فلما قدم عمير بن سلمى أخذ أخاه، فربطه إلى نخلة فقتله بجاره.
    2- إكرامه ومساعدته: فلا ينعزل عنه ويتركه يعاني الفقر والعوز وشدة الحاجة، فيدعوه إلى مجالسته في طعامه وشرابه، فيطلب حاتم الطائي من زوجته مقاسمة جاره فيما يملك، فيقول:
    إذا كان لي شيئان يا أم مالك فإن لجارب منهما ما تخيرا
    وله الإكرام ـ كذلك ـ إذا أراد الرحيل، يقول عمير بن الأيهم:
    ونكرم جارنا ما دام فينا ونتبعه الكرامة حيث مالا
    ولقد صدق شاعرهم حين قال:
    وكنت اذا جاري دعا لمضوفةٍ أشمِّر حتى ينصف الساقَ مئزري
    3- حمايته: المجير إذا أعطى جواره لأحد؛ فقد أعلن قدرته على الدفاع عنه كدفاعه عن نفسه، متحدياً كل من يخفر ذمته، ولا يستطيع أحد أن يمس جاره بسوء أو أهله، وما يملكه أو يقدم على النيل من كرامته، ومن مروءة العربي وكريم أخلاقه أنه يغيث الملهوف وينصر المظلوم، ويجير المستجير.
    4- عدم الإساءة إليه بالقول، وكف الأذى عنه، ومن إكرام المجير ألا يعامل جاره على جهله بالمثل، بل بالحلم، ويشير إلى ذلك الأعشى، فيقول:
    ولا تعدن الناس ما لست منجزا ولا تشتمن جارا لطيفا مصافيا
    5- نصرته: ليس للمجاور حق الحماية فقط، بل نصرته، وإذا قُتل أو أعتدى على ما يملك، فمن اعتدى على المجاور فقد اعتدى على مجيره الذى ينتفض لنصره ومن ورائه قبيلته، ويطلب بدمه، وإذا أُسر فعلى مجيره أن يفكَّ أسره.
    وقد قامت حروب في الجاهلية بسبب الاعتداء على حق المجاور وما تحمله المجير من حروب طاحنة وقتال طويل غيرة على كرامة المجاور وحرمته، ومن الشعور بالتحدي الداخلي جاءت المبالغة في حماية الجار كما جاءت قسوة الانتقام ممن يقدم على إهانته.
    وقد حفلت كتب الأدب وأيام العرب بذكر قصص الحروب التي كان الاعتداء على الجار سبب اشتعالها، فكان منها: حروب ضارية بين العرب، كحرب البسوس، ويوم الرغام، ويوم رحرحان، وذي قار، وغيرها.
    وفي أخبار الجاهلية وأشعارها ما يدل على حفظ أمواله والحرص على إنمائها؛ فبنو بجيلة كانوا إذا جاورهم جار عمدوا إلى ماله فأحصوه، ودفعوه إلى ثقة، فإن مات له شاة أو بعير أخلفوا عليه حتى ينصرف موفورا فإن مات قبل أن يصير إلى وطنه ردوه، وإن قتل طلبوا بدمه.
  • تمجيد العرب الوفاء بالجوار.
    إن رعاية حقوق الجار كانت تدعو إلى الفخر والاعتزاز بها، وتجلب الثناء والحمد، فأكثر الشعراءُ من تفضيل سيد على آخر، وقبيلة على أخرى بحسن الجوار، وذمّ من يغدر بجيرانه، أو يتغافل عن حقوقهم، ومن وصية عمرو بن كلثوم لبنيه:” وأكرموا جاركم يحسن ثناؤكم، وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال، فإنه أغض للبصر وأعف للذكر، ولا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه ومن انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته، وامنعوا القريب من ظلم الغريب ،ومن مظاهر الافتخار برعاية حقوق الجار يقول السموءل بن عاديا:
    وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
    ويقول آخر:
    وما جار بيتي بالذليل فترتجى ظلامته يوما ولا المتهضم
    وتأكيدا لهذا الخلق العربي، وقوة تأصله فيهم مدح عدى بن يزيد السكوني بنى شيبان لإكرامهم الجار بقوله:
    ومن تكرمهم في المحل أنهـــــم لا يعلم الجار فيهم أنه الجـــار
    حتى يكون عزيز من نفوسهـــم أو أن يبين جميعا وهو مختـار
    ويشير عبيد بن الأبرص إلى إكرامه الأرامل والأيتام والجار، بقوله:
    نحمى حقيقتنا ونمنع جارنا ونلف بين أرامل الأيتام
    وكان راشد بن شهاب اليشكري يفتخر بأنه بنى قصرا في اليمامة لمن يحتاج إليه:
    ويأوي إليه المُسْتَجيرُ مِنَ الرَّدى وَيَأوي إليه المُستَعيض مِن العَدمْ
    وهكذا غدا الجوار خلق كريم من أخلاق العرب في العصر الجاهلي، وصار قانونا بينهم يحمى الضعيف وينصر المظلوم ومن يخالفه فإن عاقبته وخيمه.

زر الذهاب إلى الأعلى