علياء نصر تكتب لـ”بوابة الاقتصاد” محنة الدين وسدنته.. الحق إله واحد وأديان متعددة
متى ما تسلل هذا التوجه بالاعتقاد بأن الإله الواحد يمكن أن يرسل أديانا متعددة ،ثم يدعوا أتباعها للاقتتال فيما بيهم ،التبس على الخلق وبذرت بذور الاحتراب ،وشوهت الحقائق وأنكرت الرسالات،والحق أنه إله واحد ودين واحد على صور متعددة بألسن متنوعة لأمم مختلفة،..فكيف باتت الأديان التي هي منهج لإصلاح الأرض أحد أكبر الأزمات في زماننا هذا؟..
مسألة الأديان هي من أكثر ما أثار الجدل والضجيج في حياة البشر على الإطلاق ،ويؤسفني طريقة تناول هذه المسألة تحديدا من أتباع الأديان الإبراهيمية وأخص المسلمين منهم كون الإسلام قد بات من أكثر ما يستخدم لخدمة مآرب بعينها ،وهو من أكثر ما حرص_في الآونة الأخيرة_على تقديمه بصورة قاسية مشوهة وغير أخلاقية، وذلك من خلال الترويج السلبي ضده والذي أحد وسائله هو الإفراط في تقديم صورة متشددة للدين وبالتبعية لوقع منفر على مستقبليها عمدا أوجهلا، يتم هذا بدعم من بعض الجهات التي لها مصلحة في تشويه الدين أو بتطوع المسلمين المتشددين الجهال بتقديم هذه الخدمة_خدمة كفرني شكرا_ مجانا لأعداء الإسلام ،..والحق أن المسلم الحقيقي هو من يمتلأ شعورا بالقيمة وإدراكا لحقيقة الاستخلاف الموكل به ،وهو من يتشبع شعورا بالمسؤلية ،لا أقول تجاه المسلمين بل تجاه الإنسانية كلها،..والأصل أن من علا قدره زادت مسؤليته ،ومن زادت مسؤليته ثقل دوره،ومن ثقل دوره زادت حكمته،..ولا غرو.. فأن تتلقب بلقب مهيب ك(خليفة الله) هذا يعني الكثير،وربما كان هذا أدعى إلى التعامل مع عباد الله بمنهج الله تعالى_نفسه كونك خليفته،..والأصل أن من يخلف غيره ينبغي أن يستن بسنته ويحذو حذوه ويقتفي أثره.. فلنر إذن كيف يعامل الله عبيده مطلقا لنتفهم كيف نقفو أثره فيهم،..الله الرب الخالق خلق خلقه وترك لهم جميعا مساحات كبيرة جدا من حرية الاختيار،..لطالما كان الله تعالى قادرا على إرغام البشرية على أن تدين بدين بعينه،..أو يحولهم جميعا لعباد يدأبون على عبادته ويلهجون بذكره ليلا ونهارا كالملائكة غير أنه لم يفعل، هذا أول أسس منهجه الذي علينا أن نخلفه فيه ،أن نحفظ للخلق حرية إقبالهم على الدين محبين قانعين أو إدبارهم عنه رافضين كارهين. وهذا بالله تقدير وإجلال للعزيز نفسه ،فالله تعالى أغنى من أن يساق له الخلق للإيمان به كارهين،ومن ظن هذا في الله فعليه أن يراجع حقيقة إيمانه،ولنبسط المشهد.. إن كنت رجلا تحب فتاة لك فيها مطلب الزواج والوصال،أيهما أشرف لك؟..أن تأتيك الفتاة بنفسها محبة راغبة معلنة إرادتها في الوصال،أم أن تكون الفتاة مبغضة لك منصرفة عنك فترسل إليها من يسوقونها قهرا لبيت الزوجية فتزداد مع القهر على البغض بغضا،وبالإكراه على النفور نفورا؟..ولله المثل الأعلى ،تعالى الغني عن العالمين،..ثانيا الأصل في الخليفة أنه أقدر من في محيطه على احتواء غيره وإدارة ما بينهم من خلافات بحكمة يسير بها على درب حكمة مستخلفه(تعالى الحكيم) ،وأنه أذكى من أن يشتت من استخلف عليهم بإغراقهم في تفاهات وقشور وافتعال أوجه للخلاف التغافل عنها أولى من إثارتها،..ولنعد إلى الأمثال ولا حرج(ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون) ،فإذا كنت والدا وتركت أبناءك واضطررت للسفر فاستخلفت عليهم الأخ الأكبر لتستقيم بقيادته وخلافته عليهم الأمور،فأي الوضعين أحرى أن يسعد قلبك ويسر خاطرك؟..أن تعود لتجد ابنك الأكبر محرضا بعض أبناءك على بعض ومثيرا لحروب واقتتال بين بقية أبناءك محولا بيتك الذي هو منظومتك _التي هندستها بيديك بركا من الدماء ومرتعا للأحقاد والكراهية؟،..ثم وحين تستجوبه فيما فعل بأبناءك يرد بإصرار أنه إنما يفعل ذلك (تحببا إليك واسترضاءا).! وأي استرضاء للإله في استثارة روح الكراهية بين عياله (والخلق كلهم عيال الله).. وأي مباهج للمولى في أن ينظر إلى أرضه دوحته وصنعته ليجدها خرائب وأشلاء،؟ثم إنه انتصار لتحفظ ملائكته الأول الذين استكثروا على الإنسان استخلافه لما توقعوه منه من سفك الدماء وتخريب الأرض عوضا عن إعمارها !..إن كنت ممن انزلقوا لهذا الفكر فقد انتصرت لرأي الملائكة الذين احتجوا على خلافتك للأرض بالأساس،وهو توجه قطعه المولى بحجته الدامغة(إني أعلم مالا تعلمون) ،..أما المبدأ الثالث هو تفهم أن الأديان عموما أكثرها منبثق من مصدر واحد،وفي هذا سعة ورحابة ،فالقرآن أشار إلى (رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) ،..يجعلنا هذا أحكم حينما نقع في حيرة من موقفنا من أي من أتباع الأديان الأخرى سواءا كانت سماويتها قطعية الثبوت كالأديان الإبراهيمية ،أو كانت ظنية الثبوت كغيرها مما أطلق عليهم خطأ أديان وضعية،..والحق أن الكثير جدا من الأديان الوضعية هي بالأساس أديان سماوية داخلها دخن وتشوه وانحراف،..وهذا ما ينبغي على (خليفة الله) (الابن الأكبر) عالي الذكر والمقام أن يستوعبه،..يبقى الكبير كبيرا مادام قادرا على احتواء الصغار ،وما دام قيما عليهم بدور ثقيل لا يقوم به سواه،.مسلكه فيه أنه أنفع الناس ل(الناس)،للناس عموما وليس المسلمين فقط،..والحق في المسلم صحيح الإسلام أنه يفطن إلى أن أتباع الأديان هم أقرب ما يكونون شبها به وقربا منه، لدخول دوائرهم في محيط دائرته الأوسع والأشمل،..ولا عجب.. فالديانة العالمية ينبغي أن تحتوي ما سبقها من ديانات إقليمية،بل إنني أتعدى القول بالاحتواء إلى القول بالاستقتال على منحهم حق التمسك بأديانهم بالتوازي مع إظهار صورة مشرفة للدين هي على الحقيقة أشد جذبا لهم من أي محاولات استمالة واستقطاب مما يسمونه دعوة أو تبشير ،فالناس مرآة وانعكاس لما يبدر من غيرهم،نستثني من هذا ذوي النفوس الخبيثة والقلوب المريضة وهم من نسقطهم ابتداءا من كل الحسابات إسقاط الخبير بعنتهم المعاين لشقاقهم،ومناط الأمر كله يكمن في شعور المسلم الحق بدوره ومكانته وفهمه السليم للمنهج الذي أراده الله للأرض،أكرر..الذي أراده الله تعالى ،لا الذي أراده شيوخ التطرف والمتفقهين وعلماء الإقصاء والاحتراب من رواد الكراهية ورؤساء الفتن. وقد رأينا بأم أعيننا من يتحملون من أبناء الإسلام وأدعياء محبته مسؤلية تكفير غيرهم وتنفير آلاف مؤلفة عن الإسلام ممن يرتجى خيرهم_لولا تعرضهم لهؤلاء المنفرين_،بل وما هو أبعد من ذلك من تشكيك أبناء المسلمين أنفسهم في الإسلام لما رأوه_اعتمادا على رؤية هؤلاء الكهنوت المريضة للدين_من تعارض بين مبادئ الدين وبين الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة،..ولا يعاتب الجاهل إنما يعذر بجهله،وإنما يعاتب العالم المنفر المؤسس لمنظومة التبغيض في دين الله بزعم التشبث بأهداب الدين والحفاظ على ثوابته،..ولو دفع أعداء الأديان ذر الأرض مالا ما وسعهم أن يحققوا من هدفهم في التنفير من الأديان مثل ما يتطوع به أولئك الجهال من أتباع الأديان نفسها كمنحة مجانية للملحدين والمشككين،وهم سبب نكبة الأديان ومصدر انتكاستها ،ويسؤنا أن يقع على الدين من أتباعه من الضرر أكثر مما يقع عليه من أعدائه،بل وإن أتباعه _من هذا الصنف_يكفون أعداءه كلفة الترويج ضده بكل ما هو مستقبح مناقض للفطرة،فيكفي أن يأتي أحد الملحدين أو المشككين بمقطع ل(العالم الجليل) فلان أو ل(فضيلة الشيخ) علان أو ل(حجة الإسلام) ترتان ،ليحيل احترام الناس للدين احتقارا،ومحبتهم بغضا ونفورا،والأصل في مجال الدعوة ألا يسلكه إلا من اتصف بصفتين،الحكمة وحسن الإقناع،وبوضعهما في أولوية اختبارات الإجازة أوصي المؤسسات الدينية التي تمنح موظفيها حق اعتلاء المنابر وإصدار الفتاوى كالأزهر والأوقاف ،وهذا عوضا عما ابتلينا به من آداء قمئ لبعض دعاة المنابر أقل ما فيه من خلل هو الإغفال لمشاعر الآخر والذي بلغ حد الدعاء على مخالفيهم في المعتقد بترميل النساء ويتم الأبناء وإنزال ألوان الأسقام عليهم(وغيرها من دعوات تنفث سموما يستحيل فحيحها في خطب الجمعة ضجيجا ) ،دون مراعاة لأبناء وطنهم من اتباع هذا المعتقد،والذين هم أحق الناس بحسن المودة وطيب المعاشرة…
وخلاصة القول أن الأديان الحق هي منحة الخالق التي بها جاد بمناهج تستقيم معها شئؤن عباده وتستقر أحوالهم، وما أصابنا من وبال إنما هو من الدخن والشرود والانحراف والتشوه الذي اعترى تلك المناهج ،والذي يحتمل من مسؤليته من أبناء تلك الأديان أكثر مما يحتملها غيرهم من أعدائها،وذلك بما يقدمونه بجهلهم وإسقاط قبح نفوسهم وطبائعهم على تكاليف الدين وتشريعاته،من دعايا سلبية مجانية ضد دينهم، ليبقى المظلوم الأكبر هو الدين،والذي هو كالسائل الذي يتخذ شكل الوعاء الحاوي له،فإن كان وعاء الدين شخصا سويا نبيلا أظهر من الدين ما يفوق الرقي رقيا،وإن كان وعاء الدين شخص مريض أو جاهل أو مختل أظهر من الدين قبحا يفوق الحد..
فخلصوا الأديان مما شابها من عكر وكدرة،..تزهو طلتها في حياتنا وننعم بأثرها وبركاتها الربانية،فتستحيل دنيانا مع الدين منحة ونعيما إلهيا،عوضا عن جحيم الرؤى المشوهة التي أغرقنا فيها سدنة الدين _زعما_و أدعياؤه وكهنوته.