أيقونة وادي السيليكون تفقد احتكارها التكنولوجي .. أودية جديدة تفتت مركزيتها
بوابة الاقتصاد
في 2019 وقبل جائحة كورونا، أشارت تقارير إعلامية إلى أن وادي السيليكون وهو المنطقة الجنوبية من خليج سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية لو نال – فرضا – استقلاله عن الولايات المتحدة، فسيكون واحدا من أغنى دول العالم وأكثرها ثراء، وسيقدر متوسط دخل الفرد فيه بأكثر من 128 ألف دولار سنويا، بينما سيقطن نصف مليارديرات التكنولوجيا في العالم “دولة وادي السيليكون”.
من المؤكد أن وادي السيليكون لا يزال يحتفظ بتميزه وثرائه وجاذبيته لعديد من شركات التكنولوجيا العالمية، لكن المؤكد أيضا أن كثيرا من المتغيرات قد جرت منذ 2019 إلى الآن، بحيث بات البعض يتساءل عن مستقبل وادي السيليكون
لعقود من الزمان لم يكن وادي السيليكون إلا تعبيرا عن نجاح ما يسمى في الولايات المتحدة بـ”المدن الخارقة”، حيث يوجد ميل لدى العمال والخبراء والشركات الأكثر إنتاجية في البلاد بـ”التجمع” في مكان محدد، وهذا تحديدا ما حدث في وادي السيليكون، حيث يتجمع بعض من أكثر الشخصيات نبوغا في العالم في مجال التكنولوجيا وشركات التقنية في هذا المكان في الولايات المتحدة، لكن يبدو أن المشهد بدأ يتغير الآن نتيجة جائحة كورونا، فكثير من المؤشرات تدل على أن فكرة “التجمع” في مكان محدد من قبل العمال والخبراء والشركات تتغير وتتراجع.
تشير الإحصاءات في الولايات المتحدة إلى أن خمسة ملايين أمريكي انتقلوا منذ 2020 وظهور وباء كورونا من وضعية الدوام الكامل في المكتب إلى العمل عن بعد، بينما يخطط نحو 20 مليون أمريكي للعمل عن بعد في الأعوام المقبلة.
وتشير الأرقام أيضا إلى أنه بعد الانتهاء من الوباء فإن 25 في المائة من أيام العمل ستكون من المنزل، بينما نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ورقة بحثية تشير إلى أن قوائم الوظائف المطلوبة من كانون الأول (ديسمبر) الماضي في 20 دولة، التي تسمح بالعمل من المنزل، زادت بأكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل جائحة كورونا.
من جانبه، يقول لـ”الاقتصادية” الدكتور إل.دي كريستوفر الاستشاري السابق في منظمة العمل الدولية بشأن الاتجاهات الجديدة في سوق العمل في الولايات المتحدة وتأثيرها في مستقبل وادي السيليكون، “صعود فكرة العمل عن بعد كظاهرة تكنولوجية وثقافية يقود إلى هجرة جماعية لرؤوس الأموال والشركات والعاملين من مناطق تمركزهم إلى مجموعة متنوعة من المدن التي ربما شهدت لأعوام استنزافا لكوادرها المميزين لمصلحة وادي السيليكون”.
ويستدرك كريستوفر قائلا “التكلفة الاقتصادية تعد واحدة من الأسباب الرئيسة لذلك الاتجاه، إذ إن ارتفاع التكلفة المعيشية في وادي السيليكون مثل ايجارات المنازل للعاملين في الوادي أو مقار الشركات لأصحاب الأعمال، كذلك ارتفاع تكلفة الأنشطة الترفيهية والصعوبات الحياتية اليومية مثل أن تجد مكانا لإيقاف السيارة، أو ضرورة الحجز في مطعمك المميز قبل فترة طويلة، كل هذا يشجع الجميع على فكرة العمل عن بعد ومن خارج وادي السيليكون في مدن أخرى أقل تكلفة واكتظاظا بالسكان، وفي الحقيقية فإن العمل عن بعد كان ممكنا أيضا قبل الوباء، وكان كثير من الباحثين عن عمل يريدون ذلك، لكن وباء كورونا جعل هذا عمليا”.
من ناحيته، يعزز ميتشل كروس الباحث في مجال سوق العمل أفكار الدكتور إل.دي كريستوفر بالإشارة إلى أن 40 ألف شخص من سكان وادي السيليكون هاجروا منه العام الماضي، وهو أكبر نزوح جماعي منذ انهيار فقاعة شركات الإنترنت في 2000، بينما انتقل 5560 شخصا فقط إلى وادي السيليكون في 2021، أي أقل بثلاث مرات تقريبا ممن هاجروا إليه في 2020 وأقل 72 في المائة عن 2019، وكانت النتيجة أن عدد سكان وادي السيليكون انخفض للمرة الأولى منذ أكثر من 12 عاما.
لكن هذا التطور كان يرافقه تطور آخر، عزز من مسار تآكل مكانة وادي السيليكون في عالم التكنولوجيا، فالارتفاع المفاجئ في العمل عن بعد الناجم عن الوباء، كان يترافق مع ظاهرة أخرى كانت تنمو في الولايات المتحدة، فنجاح وادى السيليكون أوجد جاذبية دفعت عديدا من الولايات الأمريكية للعمل على استنساخ التجربة عبر الاستثمار المتزايد في شركات التكنولوجيا المتجمعة في مدن أخرى خارج وادي السيليكون، لكنها تجمعات أقل شهرة وصيتا.
وأوجد ذلك بنية أساسية قوية ومتطورة مكنت كثيرا من الأشخاص من مواصلة العمل في وادي السيليكون دون أن يقطنوه ويكونوا على بعد آلاف الكيلومترات من مقار عملهم، معتمدين على تلك البنية التحتية القوية التي وجدت نتيجة الرغبة في تقليد وادي السيليكون.
نتيجة تلك التغيرات شهدت ست مدن من أصل تسع مدن أمريكية صاعدة نموا في الطلب على الوظائف في مجال التكنولوجيا، وهو مؤشر على زيادة التوظيف في مجال التكنولوجيا خارج وادي السيليكون.
ربما يؤدي هذا التطور إلى تقلص نسبي في قوة وادي السيليكون، فشركات التكنولوجيا التي لا تستطيع تحمل تكلفة العمل فيه يمكنها الآن أن تعمل من أي مكان آخر.
بدورها، توضح لـ”الاقتصادية” الدكتورة فكتوريا تشارلز أستاذة الاقتصاد المقارن في جامعة ليدز، أن “وباء كورونا جعل العثور على المواهب أسهل، لأنه مع ظهور ثقافة العمل عن بعد في صناعة التكنولوجيا بات من الممكن توظيف العمال من أي مكان في العالم، وهذا يعزز قوة شركات التكنولوجيا خارج وادي السيليكون”.
وتواصل قائلة “تنامي القوة الابتكارية لشركات التكنولوجيا خارج وادي السيليكون وخارج الولايات المتحدة ككل، ربما يمثل التحدي الأبرز الذي يضع علامات تساؤل حول مستقبل وادي السيليكون، الذي بنى مجده نتيجة حصول الشركات الناشئة هناك على نصيب الأسد من تمويل رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة في العقود الأربعة أو الثلاثة الماضية، الأمر يتغير الآن، وهذا سيخفض على الأمد الطويل تركز شركات التكنولوجيا في الوداي ويجعله أقل أهمية”.
إلا أن المهندس جيرمي هاريس الاستشاري في مجال أنشطة التكنولوجيا المستدامة يستبعد أن يفقد وادي السيليكون أهميته أو تتراجع قوته حتى وإن فقد “احتكاره التكنولوجي”.
وقال لـ”الاقتصادية” إن “ما سيحدث هو أن يشهد وادي السيليكون مزيدا من التركيز لشركات التكنولوجيا في العالم، نعم قد تتراجع أعداد شركات التكنولوجيا العاملة فيه نظرا لارتفاع تكلفة الأداء الاقتصادي، لكن الشركات التي ستبقى أيا كان عددها فستكون هي الشركات الرائدة في مجال الابتكارات التكنولوجية، لأن وادي السيليكون بات أيقونة في حد ذاته، بمعنى أن الشركة أو الشركات التي تعمل به لها مكانة ووضعية خاصة في عالم التكنولوجيا والابتكارات، باختصار سيبقى الأشخاص من أصحاب الدخول المرتفعة ويغادر أصحاب الدخول المنخفضة”.
ويرى المهندس جيرمي هاريس، أن انخفاض أعداد سكان وادي السيليكون لم يؤثر في تدفق الاستثمارات إلى المنطقة، ولا على نمو صناعتها الأساسية، إذ إن معدل البطالة منخفض بشكل قياسي ولم يتجاوز 2.9 في المائة، إضافة إلى ارتفاعات قياسية في تمويل رأس المال الاستثماري بلغ 95 مليار دولار، كما بلغت القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا في وادي السيليكون 14 تريليون دولار.
لكن بعض الخبراء في مجال التقنية يشيرون إلى أن نقاط قوة وادي السيليكون قد باتت هي نقاط ضعفه، التي تهدد بتراجع مكانته خلال العقدين المقبلين. فالهيمنة شبه الكاملة لأهم عمالقة التكنولوجيا مثل “فيسبوك” و”أمازون” و”جوجل” و”أبل” و”مايكروسوفت” تمثل نقاط قوة وادي السيليكون، لكن في الوقت ذاته باتت هيمنة تلك الشركات خانقة للشركات الأخرى، إذ لا يقتصر تفوقها على جمع أفضل المواهب فحسب، بل إن نموها في حد ذاته بات عائقا لنمو الشركات الأخرى الناشئة، وهذه الهيمنة تؤثر في الابتكار وتدفع بالشركات الصغيرة الناشئة إلى التجمع في مناطق أخرى قد تمثل بداية لظهور منافسين لوادي السيليكون.
من هذا المنطلق يشير البروفيسور هاريس كلاركيسون أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة بريتون إلى أن مركز الثقل التكنولوجي العالمي يتحول بعيدا عن وادي السيليكون.
ويقول لـ”الاقتصادية” إنه “لطالما كان وادي السيليكون إحدى الوجهات الأساسية لتطوير المنتجات التكنولوجية والقيادة والتمويل اللازم لتشغيلها، لكن الأمر يتغير الآن حتى وإن كان بشكل بطيء وغير صارخ أو ملحوظ.
وأوضح أن ما يحدث هو تفتت مركزية الابتكار التكنولوجي التي يمثلها وادي السيليكون لمصلحة اللا مركزية في الابتكارات التكنولوجية، هذا يؤدي إلى ابتكار منتجات أفضل للجميع، لافتا إلى أن الاقتصادات المتطورة توجد وديان السيليكون الخاصة بها، في محاولة للانعتاق من هيمنة الشركات الأمريكية.
أما الاقتصادات الناشئة على الرغم من أنها في بدايات الطريق، فإن كثيرا منها بات لديه نقاط انطلاق يمكن البناء عليها في مجال التكنولوجيا، وهذا لا يعني انهيار وادي السيليكون وخروجه من المعادلة، فهذا أيضا لا يعد في مصلحة أحد، وإنما ستتآكل هيمنته المطلقة خلال العقدين المقبلين بعد أن استمرت لعقود”.