آخر الاخباراتصالات و تكنولوجيااقرأ لهؤلاء

أبو عمر القروي يكتب: مقامات رمضانية .. كسوة المصريين زمان

بوابة الاقتصاد

مقامات رمضانية ( ٣ )

** كسوة المصريين زمان

* في خمسينات و ستينات ، و أوائل سبعينات القرن الماضي ، لم يكن شهر رمضان شهر صيام ، و قيام و صدقات فقط ، و لكن امتدت بركته لتشمل كل نواحي الحياة ، حيث تميّز هذا الشهر في القرية بديناميكية ، و حركة لا تهدأ ، فقد كان يمثل شهر ( عَمرة ) للإنسان و المكان لاستقبال العيد .

* فالكسوة الأساسية لأهل القرية كانت في رمضان ، صيانة المنزل و أثاثه كان في رمضان ، الاستعداد للأفراح التي تتم بعد العيد و غيرها من الأمور الحياتية كله في رمضان .

عمر القروي
عمر القروي

* فالأب و الأم يذهبان للمدن القريبة ، أو القرى الأكثر تطورا لشراء الأقمشة المصرية للذكور و الإناث إنتاج شركة غزل المحلة ، أو إنتاج شركة مصر البيضا ، و غيرهما من الكاستور بأنواعه ؛ المبرد و المضلع و الصوف في الشتاء ، والتركلين و اللونيه في الصيف ، و التيل و الكتان ، و ذلك في وقت مبكر من رمضان ، حتى يكون هناك وقت للتفصيل و الخياطة عند الرجال و النساء .

* فلم نكن أصبنا بمرض الملابس الجاهزة المحلية أو المستوردة ، فلم تكن منتشرة كيومنا هذا ، بل كان هناك انتعاش للصناعة الوطنية ، و كان عندنا شبه كبرياء ، و نحن نتباهى أننا نلبس القطن المصري ، و كان المجتمع المصري يمثل سوقا كبيرا لهذه الشركات فلم ينافسها أحد لأن الدولة كانت تضع حظرا على كل ما يهدد صناعتنا المحلية ، أو يفتح شهية الناس لأشياء جديدة تغير من نمطهم الاستهلاكي .

* لهذا كان أكثر أهل القرية يلبسون الجلاليب ، أو حتى بيجامة ، و من النادر أن تجد من يلبس قميصا و بنطلونا ، كان الزحام على الترزية من الرجال ، و النساء شديدا ، و كان كثير من الأطفال الصغار من الذكور يفصِّلون ملابسهم عند السيدات ، أو عند ترزي مبتدئ ، و لهذا كنا نرى الأعاجيب في الملابس ، فأحيانا تجد الياقة ( اللياقة ) مشدودة للخلف ، و أحيانا يضع الترزي في اللياقة مشمّعا بدلا من الحشو فتجدها لا تنثني ، و أحيانا تطول فتحة الصدر إلى السرة ، أو يضيق الكم من تحت الإبط ، فلا تستطيع أن ترفع الذراع ، و أحيانا تجد سترة البيجامة لا تصل إلى السرة فتجد مسافة بين البنطلون و الجاكت ، و أدنى الخسائر أن تستلم الثوب بلا سرفلة على أن يتم ذلك بعد العيد ، و كان اللبس له تقاليده الحاكمة ، و كان مجرد لبس قميص بنصف كم ، كان يمثل عيبا .

* لم تقتصر ( العَمرة ) على الملابس الخارجية بل كانت تتعداها للملابس الداخلية ؛ الأطفال و الشباب يلبسون ملابس جاهزة ؛ أما كبار السن ، كانوا يفصلون القميص و السروال من الدبلان الأبيض أو من الدمور ( و الاسم التجاري له تيل نادية ) ، و كانوا يصنعون للسراويل دكة من الصوف ، و كان معظم كبار السن يخلعون سراويلهم قبل دخول الحمام في المساجد ، و لا يلبسونها إلا بعد الوضوء ، حرصا على الطهارة ، معتمدين على طول الأقمصة ، و كان الفلاحون حريصين كل الحرص على غطاء الرأس ، و لهذا كانوا يلبسون الطواقي ، و يمتد حرصهم إلى عمل طاقية جديدة في رمضان على أن تُلبس في العيد .

* و كان في كل قرية – غالبا – من يجيد صنع الطواقي ، و لهذا كنا نجد بعض الفلاحين حريصين على حمل المغزل و الشوكة ، و يطرِّز طواقي رائعة بغرز مختلفة ، فيها فن و إبداع ، و أحيانا يصنع هؤلاء شِرزا من الصوف يُلبس في فصل الشتاء ، و أحيانا يلبسون ما يسمى بالبشت ، الذي كان يستدفئ به الفلاح عند الخروج في البرد الشديد .

* و قبل العيد بيوم أو يومين كنت تجد الزحام شديدا عند الترزية ، فالكل يريد أن يستلم ملابسه ، حتى العرائس و العرسان ، كانوا يزاحمون ؛ لأن أفراحهم ستقام بعد العيد مباشرة ، لأن الزواج في رمضان لم يكن مستحبا .

* هذه الكسوة كانت تكلف الفلاحين مبالغ طائلة ، و لهذا كانوا يفرحون عندما يأتي العيد بعد موسم حصاد ، و حبذا بعد محصول القطن الذي كان يدر على الفلاح ربحا يقضي به المصالح المهمة ، أو في محصول الفول في فصل الشتاء ؛ حيث كان الفول يُدر دخلا مهما ، و لا يكلف الفلاح شيئا في زراعته .

* أما فيما عدا هذين المحصولين ، فالكسوة كانت تمثل أزمة لكثير من الفلاحين ؛ و لكن كان الموضوع يحل بالأخذ بالدين من بعض الباعة الجائلين ، الذين كانوا يترددون على القرية باستمرار ، بعضهم كان يحمل بضاعته فوق كتفه ، و البعض كان يحملها على عربة بحمار ، أو حصان ، و يعرض بضاعته أمام المسجد ، و يشتري منه أصحاب الحاجات ، أو الكسالى ؛ لأن الاختيارات عندهم كانت محدودة ، و لكنهم كانوا يمهلون المعسر لحين ميسرة ، المهم لا يأتي العيد إلا و جميع الناس في القرية يلبسون ملابس جديدة أعدت في شهر الصيام ، شهر البركات .

* اليوم تهاوت كل شركات النسيج في مصر ، و أصبحت شركة المحلة أثرا بعد عين ، مهددة بالغلق دائما و غاب القطن المصري الأصيل طويل التيلة بعد أن تشوه مثلما تشوه كل شيء ؛ الذوق و الإنسان ، و الأشياء ، لم يبق شيء على حاله ، فحدث الانفتاح الاقتصادي ، و افتتحت المنطقة الحرة في بور سعيد ، فدمرت السوق المصري ، و الاقتصاد المصري ، و دمرت أهل بور سعيد أنفسهم ؛ الذين ظن معظمهم أن حياتهم ستقوم على التجارة ، و التهريب فخربت التجارة ، و لم يعد هناك شيء يهربونه .

* و ضربت الصناعة المحلية في مقتل ، و تغيّر الذوق العام و تغيّر معه النمط الاستهلاكي ، و لهذا لن يكفينا شيء مهما تعددت مصادر الرزق ؛ لأن الشره في الشراء صار أكبر ، و غابت السعادة حتى في الأعياد ، و لم يعد للأشياء فرحة ؛ لكثرة ما نأكل و ما نلبس ، و تغيّر ما كنا نلبسه ، و أصبحت رءوس الفلاحين عارية ، فتعرت معها قيمنا و أخلاقنا ، فتحرّك كل ما كان ثابتا ، و مستقرا : الأصول ، و القيمة ، الاحترام ، و العرف و العادة ، و كل شيء جميل كان يحكم حياتنا ….. انتهى .

زر الذهاب إلى الأعلى