آخر الاخباراقرأ لهؤلاءمنوعات

محمد فضل يكتب: نظرات في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾

بوابة الاقتصاد

نظرات في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275].

في هذه الآية بحث، وهو دلالة قوله: ﴿لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس﴾، وفيها أقوال للمفسرين:

القول الأول: أن ذلك يوم القيامة حين يقوم الناس في الآخرة من قبورهم، وأن آكل الربا يبعثه الله يوم القيامة مجنونا. وهو الذي عليه جمهور المفسرين قديما وحديثا، حتى ادعى ابن جزي الإجماع على هذا المعنى. فهو قول عبد الله بن سلام، وابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن أبي زيد، والطبري، والسمرقندي، وابن أبي زمنين، والثعلبي، والماوردي، والواحدي والبغوي، والزمخشري، وابن عطية، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، وابن كثير، والشوكاني، وغيرهم. [تفسير مجاهد، ص245، تفسير عبد الرزاق ج1، ص 374، تفسير الطبري ج6، ص8 ، تفسير ابن المنذر ج1، ص 52، ج1، ص 182، تفسير السمرقندي ج1، ص 182، تفسير ابن أبي زمنين ج1، ص 263، تفسير الثعلبي ج2، ص 282، تفسير الماوردي ج1، ص 248، الوسيط للواحدي ج1، ص 394، والوجيز له ص192، وتفسير السمعاني ج1، ص 279، وتفسير البغوي ج1، ص 341، والكشاف ج1، ص 320، والمحرر الوجيز ج1، ص 272، وتفسير القرطبي 3/354، والبيضاوي ج1، ص 162، والنسفي ج1، ص 224 ، وابن جزي ج1، ص ، 137، وابن كثير ج1، ص 708، وتفسير أبي السعود ج1، ص 266، وفتح القدير ج1، ص 338، والتحرير والتنوير ج3، ص 81- 82، ].

فضل
فضل

والذي يبدو لي أن ما ذهب إليه جمهور المفسرين ليس هو المعنى الأنسب لدلالة الآية، وذلك للدليلين التاليين:

(الدليل الأول): أنه ليس في سياق الآيات ما يشير إلى وقوع هذا النوع من الجزاء يوم القيامة، لا الآيات التي قبلها، ولا التي بعدها، بل العكس هو الصحيح، كما سيأتي في الأسطر التالية.

(الدليل الثاني): أن هذه العقوبة التي صور المولى -سبحانه وتعالى- فيها متعاطي الربا بمن يتخبطه الشيطان من المس قد يفهم تفسيرها من الآية التي بعدها مباشرة، بأنها المحق الذي يعني نزع البركة من الأموال المكتسبة من الربا، وهو قوله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا..﴾.

القول الثاني: أن الآية تصوير لحرص المرابين وجشعهم، في الدنيا.

وهذا التفسير احتمال سبق إليه عبقري المفسرين ابن عطية -رضي الله عنه، وجزاه عنا خيرا- لولا أنه تراجع عنه لكونه مخالفا قول جمهور المفسرين، ومخالفات – في رأيه- القراءة الشاذة الواردة عن ابن مسعود (لا يقومون يوم القيامة). ولبراعة هذا الرأي أنقل عبارته نصًّا، حيث قال -رحمه الله-: ” وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه، مخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره، قد جن هذا”. [المحرر الوجيز ج1، ص 272، واستحسنه أبو حيان في البحر ج2، ص 705، ونقله عنه القرطبي ولم يعلق عليه. الجامع لأحكام القرآن 3/354].

وهذا القول نصره صاحب تفسير المنار ج3، ص 80، وشبَّب به، ودَنْدَنَ حوله، فقال: ” ما قاله ابن عطية ظاهر في نفسه، فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضريت نفوسهم بجمعه وجعلوه مقصودا لذاته وتركوا لأجل الكسب به، جميع موارد الكسب الطبيعي، تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم، كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة، وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس، فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم، وكخبط العشواء، وبهذا يمكن الجمع بين ما قاله ابن عطية وما قاله الجمهور، ذلك بأنه إذا كان ما شنع به على المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف هو أثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم كان لا بد أن يبعثوا عليه، فإن المرء يبعث على ما مات عليه، لأنه يموت على ما عاش عليه، وهناك تظهر النفس الخسيسة في أقبح مظاهرها، كما تتجلى صفات النفس الزكية في أبهى مجاليها”.

قلت: وأصحاب هذا القول -على جلالتهم- قد اهتدوا إلى باب المعنى، لكنهم وقفوا عنده، ولم يلجوا منه، وكلام صاحب المنار لا يزيد عن أن الله شبه حركة آكل الربا، بحركة المضطرب الحركة في أعماله لكثرة انهماكه في العمل، ولم يتطرق هذا التأويل إلى أن الآية تتضمن نوعا من أنواع العقوبة على أكل الربا، كما سيتضح بعد قليل.

وأما احتجاج فخر المفسرين ابن عطية بقراءة ابن مسعود، فلا نتابعه فيها؛ لأنها زيادة على نص القرآن، ونحن نعتقد فيها ما يعتقده المحققون من أنها زيادات تفسيرية من هذا الصحابي الجليل، لا أنها من صلب القرآن الكريم.

القول الثالث: وهو اختيار فخر الدين الرازي، وهو أنه مأخوذ من قوله تعالى: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ [الأعراف: 201] وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجابا بينه وبين الله تعالى، فالخبط الذي كان حاصلا في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة، وأوقعه في ذلك الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا. [التفسير الكبير 7/ 76].

قلت: ويقال في هذا القول ما قيل في القولين الأول والثاني.

القول الرابع: إن الشيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الفزع فيصرع كما يصرع الجبان في الموضع الخالي، ولهذا لا يوجد هذا الخبط في العقلاء وأرباب الحزم واللب.

وهذا القول حكاه النيسابوري في تفسيره ج2، ص 62.

قلت: وهذا معنى ظاهري، يقرب في بعده عن المعنى الحقيقي من القول الأول.

القول الخامس: أنه معنى مجازي، يقصد به التشنيع، أو التوعد بسوء الحال في الدنيا ولقي المتاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة. وهذا القول ذكره ابن عاشور-رحمه الله- بعد أن استظهر قول الجمهور.

قلت: وهذا القول وإن كان الشيخ ابن عاشور استظهر غيره، إلا أنه من أكثر الأقوال قربا إلى حقيقة المعنى.

التفسير المختار للآية:

لعل أقرب المعاني اللائقة بتفسير هذه الآية: أن يكون معنى القيام في الآية: القيام بأعباء الحياة، وطريقتهم في التقلب في الرزق، وابتغاء المكاسب والمعايش. وبذلك ننفي عن (يقومون) معنى النهوض من القعود والاستواء واقفا، كما جاء في قول جمهور المفسرين.

أو يكون المعنى بعبارة أخرى: إن الذين يأكلون الربا لا تستقيم حياتهم، ولا يعتدل مسارها، إلا كما يستقيم المصروع في نهوضه ومشيته.

فيكون معنى الآية بناء على هذا التأويل: وصفا لصعوبة الحياة التي يحياها هؤلاء المرابون، وتصويرا للشقاء والبلاء الذي يعانونه، ووصف نظامهم الربوي بأنه نظام فاسد، فاشل، لا يحقق استقرارا اقتصاديا، ولا يوفر رخاء حقيقا لأفراد المجتمع، ولا يجلب طمأنينة لهم في حياتهم، ولا يحصد صاحبه إلا الفشل تلو الفشل، مما يجعله يتخبط في تصرفاته، ويتخذ القرارات العشوائية التي لا تجلب عليه سوى المزيد من الفشل والإحباط، فكلما حاول هؤلاء المرابون النهوض وعلاج الكوارث، وتعويض الخسائر الناجمة عن النظام الربوي، تعثروا مجددا، وسقطوا المرة تلو الأخرى، كما يسقط الممسوس إذا أراد النهوض، فيترنح يمنة ويسرة.

وهذا المعني هو الذي يتفق وبقية عقوبات أكل الربا في الدنيا، كمحق البركة الوارد في قوله تعالى: ﴿يمحق الله الربا﴾، والحرب من الله الذي يعني تخذيل الله لآكل الربا ونزع التوفيق عنه، والمعاقبة بنقيض القصد، ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، وتحريم الطيبات الوارد في قوله تعالى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْه﴾، فكأن هذه العقوبات منظومة واحدة، متقاربة في طبيعتها، متحدة في أهدافها.

فإن قيل: إن هذا التفسير يعترض عليه بأننا نشاهد المرابين وهم أكثر الناس مالا، وأعظمهم جاها ونفوذا، وأشدهم سيطرة على غيرهم، وتحكما فيهم.

قلنا: إن الله سبحانه له تصرف في أنواع العقوبات التي يعاقب بها من حاد عن سبيله، وتنكب عن صراطه المستقيم، وركب هواه، ولعل من أشد هذه العقوبات: تكدير العيش، وعدم التوفيق، ونزع البركة من المال، وجعل المال المكتسب من الحرام وبالا على صاحبه، فتارة يستدر حسد من فوقه، فيعاقبه بالسجن والمصادرة، وتارة تتسلط الزوجة والأبناء على إنفاقه فيما يعود عليهم بالعذاب والشقاء، وتارة يكون بالإفلاس والإفقار، فليس معنى كون الشخص غنيا أو فاحش الثراء أنه سعيد، بل قد يكون أعنى الأغنياء وهو أشقى الأشقياء، وأتعس التعساء، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

فإن قيل: إن تأويلك (يقومون) في الآية بأنه تقلب الإنسان في الحياة، وطلبه رزقه ورزق عياله، وغير ذلك من التصرفات، لم يسبقك إليه أحد من المفسرين، فمن أين أتيت به؟

قلنا: معاذ الله أن نقول في كتاب الله بغير علم، وهذا المعنى الذي ألصقناه بالفعل “يقوم” معنى عربي أصيل، ضارب في أعماق الفصاحة بجرانه، والمتتبع لمعاني الفعل “قام” ودلالاته في اللغة، يستبين له أنها ليست بعيدة عما ألصقناه به، وفسرناه، فقد أوردت المعاجم: قام الشيء واستقام: استوى واعتدل، وقوام الأمر- بالكسر-: نظامه وعماده، ويقال: هذا قوام الأمر وملاكه الذي يقوم به، وَقَامَ الرجل على الْمَرْأَة: تولى أمرها، وصانها ومانها، وأقمت الشيء وقومته فقام بمعنى استقام، وقام الماء إذا ثبت متحيرا لا يجد منفذا، وقال أبو عبيدة: هو قوام أهل بيته وقيام أهل بيته، وهو الذي يقيم شأنهم من قوله تعالى: ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما﴾ قال الفراء: التي جعل الله لكم قياما، يعني: التي بها تقومون قياما وقواما. وفي التنزيل العزيز: ﴿الرجال قوامون على النساء﴾؛ وليس يراد هاهنا، والله أعلم، القيام الذي هو المثول والتنصب وضد القعود، إنما هو من قولهم قمت بأمرك، فكأنه، والله أعلم، الرجال متكفلون بأمور النساء معنيون بشؤونهن. المحكم ج6، ص 590-592، لسان العرب ج12، ص 497-503.

فإن قيل: هل خالفت قول جماهير المفسرين، وانفردت بهذا القول، أم أنت مسبوق إليه، لك سلف فيه.

قلنا: الحمد لله، لي أسلاف عظماء من أصحاب القدم الراسخة في العلوم وتفسير كلام الله تعالى، وهم الإمام الطاهر ابن عاشور، والإمام أبو زهرة، والإمام الشعراوي.

أما الطاهر ابن عاشور فقد سبق عرض رأيه في القول الخامس، ووصفناه بأنه من أكثر الأقوال قربا إلى معنى الآية.

وأما الشيخ أبو زهرة فقال: ” ابتدأ سبحانه في بيان حقيقة الربا وحكمه ببيان أثره في نفس المرابي، ليعلم كل إنسان أن أثره شر في نفس صاحبه، وأن أول من يناله الضرر هو المرابي نفسه، فهو بمقدار ما يكثر من مال يكثر من الهموم.. فهذه الجملة السامية تصوير لحال المرابي، واضطراب نفسه، وقلقه في حياته، فالله سبحانه وتعالى يمثل المرابي في قلقه المستمر وانزعاجه الدائم بحال الشخص الذي أصيب بجنون واضطراب، فهو يتخبط في أموره وفي أحواله، وهو في قلق مستمر. والمعنى على هذا أن الذين يأكلون الربا، ويتخذونه سبيلًا من سبل الكسب هم في حال لا يقرون فيها ولا يطمئنون، فلا يقومون ولا يتحركون إلا وهمُّ المال قد استولى على نفوسهم، والخوف عليه من الضياع مع الحرص الشديد قد أوجد قلقا نفسيا دائما في عامة أحوالهم، فهم كالمتخبط بسبب ما مسَّه الشيطان.. وإن ظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا التمثيل هو لبيان حالهم في الدنيا، فهو تصوير لاضطرابهم وقلقهم وتخبطهم في حياتهم، وإن بدوا منظمين فهو تنظيم مادي، ومعه القلق النفسي، والانزعاج المستمر”. زهرة التفاسير باختصار ص 1042-1043.

وأما الإمام الشعراوي فقد أطال النفس جدا في تأويل تخبط المرابين، وأشار إلى ما تتضمنه هذه الآية من وخيم العقوبة للتعامل بالربا، وعلى الرغم من أنه قصر ذلك على الآثار العامة الجماعية التي تصيب المجتمع ككل، إلا أن ما تفضل به يبقى وجيها ومباشرا في إصابة المعنى، وكان مما قاله -رحمه الله-: ” ومن العجيب أن نجد القوم الذين صدروا لنا النظام الربوي يحاولون الآن جاهدين أن يتخلصوا منه، لا لأنهم ينظرون إلى هذا التخلص على أنه طهارة دينية، ولكن لأنهم يرون أن كل شرور الحياة ناشئة عن هذا الربا. وليست هذه الصيحة حديثة عهد بنا، فقديما أي من عام ألف وتسعمائة وخمسين قام رجل الاقتصاد العالمي «شاخت» في ألمانيا وقد رأى اختلال النظام فيها وفي العالم، فوضع تقريره بأن الفساد كله ناشئ من النظام الربوي”. تفسير الشعراوي ص1189.

وقال: ” إنها نكسة خلقية توجد في المجتمع ضِغناً، وتوجد في المجتمع حقداً، وتقضي على بقية المعروف وقيمته بين الناس، وتنعدم المودة في المجتمع. فإذا ما رأى إنسان فقيرٌ إنساناً غنياً عنده المال، ويشترط الغني على الفقير المعدم أن يعطيه ما يأخذه وأن يزيد عليه، فعلى أية حال ستكون مشاعر وأحاسيس الفقير؟ كان يكفي الغني أن يعطي الفقير، وأن يسترد الغني بعد ذلك ما أخذه الفقير”. السابق ص 1190.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى