د.عزيزة الصيفى تكتب: ابن رشد .. احترم العقل وقدَّر قيمته
بوابة الاقتصاد
إن الفلسفة العربية لها تاريخ ومحطات ينبغى الوقوف عندها ودراستها بدقة والعناية بها، لأنها علامات وبصمات فارقة فى تاريخ الفلسفة العالمية، ومن أهم الفلاسفة عند العرب وخير مثال لهم ابن رشد، ذلك العالم الكبير الذى قلما يجود الزمان بمثله، هو فيلسوف عربى- أندلسى مسلم. وُلد سنة 1126 ونشأ فى أسرة عربية بالأندلس، وكان من النوابغ الذين تظهر نجابتهم فى العقد الأول من أعمارهم، حفظ القرآن، وتدارسه وفهمه، ودرس الشريعة الإسلامية على طريقة الأشعرية كأسرته وتخرج على مذهب الإمام مالك، ولذلك أكد من درسوه أنه يوجد شبه بين آرائه الشرعية والفقهية وبين ميوله الفلسفية، ولعل فكر ابن رشد يتفق مع اتجاه الفكر فى مختلف العلوم، ذلك الفكر الذى ساد فى الأندلس فى القرن الثانى عشر، أيام أن كانت أوربا منغمسة فى عصور الظلام.
ابن رشد هو أحد أهم سبل إنقاذ العقل العربى، وإعداده للقدرة على الابتكار، والتمكن من بناء فلسفة عربية إسلامية خالصة قادرة على النهوض بالفكر من التجمد، وهو المؤسس الحقيقى للفكر الفلسفى فى الأندلس، برع فى الطب، والفقه، والفيزياء والفلك، زاول الموسيقى وكان شغوفًا بها وأتقنها، ثم تحول إلى دراسة فلسفة أرسطو فقدم شروحًا لها، وقد ساهم بذلك فى تأثيره على أوربا فى القرون الوسطى، فكان له فضل كبير فى تخلص العقل الأوربى من سيطرة الكنيسة عليه، وكان له تلامذة وأتباع، ومدرسة تامة الأركان، هى الرشدية اللاتينية، وكما كان له مؤيدون فى أوربا كان له خصوم، وقد كانت باريس هى مهد الرشدية اللاتينية.
وكانت مؤلفات ابن رشد تحوى كنوزًا من العلوم المختلفة، إلا أن مؤلفاته فى الفلسفة فاقت مؤلفاته فى المعارف الأخرى، وقد جعل الغربيون شروحه الدقيقة والمستصعبة لكتب أفلاطون وأرسطو مدخلًا لدراسة الفلسفة التى ساهمت فى قيام النهضة الأوربية. كان فكره قائمًا على الدعوة للتنوير، وإعمال العقل، لم يكن يراه أحد؛ إلا عاكفًا على القراءة والكتابة، ما أتاح له أن يكون فلسفته الخاصة فى الحياة والموجودات.
ألَّف خمسين كتابًا.. وتولى منصب القضاء فى أشبيلية، ثم قاضى القضاة فى قرطبة، ثم قرر أن ينتقل إلى مراكش ليعرض فكره بحرية وكان من المقربين من أمير الموحدين أبى يعقوب يوسف، ثم من خليفته أبو يعقوب يوسف يعقوب المنصور الذى ألحقه بالبلاط طبيبًا له، وهذه المكانة التى حظى بها الفيلسوف فى بلاط الخليفة أشعلت نار الحقد فى قلوب بعض من الفقهاء المتشددين، لأن له فكرًا فلسفًا لم يجد صداه عندهم، وبسبب ما كان يقدمه من أفكار يؤكد من خلالها أن الشرع أوجب النظر بالعقل فى الموجودات، فاستخدم القياس العقلى، إذ يقول: «إن كان فعل الفلسفة ليس شيئًا أكثر من النظر فى الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعنى من جهة ما، هى مصنوعات، فإن الموجودات تدل على الصانع لمعرفة صنعتها». ثم يقول: «فاستخدام القياس العقلى هو أمر موجود فى الفقه وليس مبتدعا».
ويذكر أدلة من القرآن، مثل قوله تعالى: «أو لم ينظروا فى ملكوت السماوات والأرض»، وقوله: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت»، وقوله: «ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض»، ثم يقول: فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بين فى غير آية من كتاب الله تبارك وتعالى، مثل قوله «فاعتبروا يا أولى الأبصار». ويقول: «وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلى، أو العقلى والشرعى ووجوب النظر العقلى فى الموجودات»، ويقول: «إننا من مقدمات معلومة نستنتج نتيجة مجهولة»، ومن هذا المنطلق سوغ دراسة المنطق.
تدور أطروحته حول ثلاثة محاور، أولا: أن الشرع أوجب النظر بالعقل فى الموجودات وأوجب دراسة المنطق، ودلل على ذلك بتفسير قوله تعالى: «واعتبروا يا أولى الأبصار»، فيرى أن الأبصار هى القياس، لذلك أوجب أن النظر فى الوجود من علل الموجودات. وثانيا: أن النظر ليس بدعة وينبغى أن نأخذ به، ولا يمكن أن يتحقق لفرد واحد، فهو إسهام الجماعة فى جميع الأمم. وثالثا: أن العلاقة بين ما يقرره العقل والبرهان وما تتفق به الشريعة كل منهما يعبر عن الحق، والقضايا البرهانية العقلية هى حق، والحق لا يضاد الحق، بل يؤكده ويشهد له أى ليس هناك تناقض بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة ومرجعه النهائى العقل.
وبذلك نجده يقدم موقفا مميزا خاصا ومهما، فى مسألة العلاقة بين الشريعة والحكمة، أى بين الدين والفلسفة، فقد حاول ابن رشد توضيح حقيقة كان مؤمنا بها، وهى أن الإسلام لا يتعارض مع الفلسفة، فالله أمر بالتفكير، وأمر بالتدبر فى خلقه وفى الكون، وأن إعمال العقل فريضة، يجب على المسلم استغلالها، وأهم ما تحدث عنه هو التأويل، والقياس العقلى، لأنهما كانا مصدر خلاف بينه وبين الفقهاء الذين يحرمون التأويل، والقياس، رغم استخدامهم لهما فى أحيان كثيرة.
وقد أثار ذلك ثائرة المناهضين لأفكاره، المنكرين عليه اهتمامه بالفلسفة، حيث اتهموه بالمروق عن الدين، وحرضوا عليه أمير مراكش، الذى خضع لرغبتهم، فنفاه إلى بلد بالقرب من قرطبة، وحظر الاشتغال بالفلسفة والعلوم جملة، وأحرق كتبه الفلسفية، ولكن عاد بعدها الأمير ورضى عنه، وبدل المنشور الذى أذاعه فى حق ابن رشد ومحا أثره، واشتغل بالفلسفة واسترضاه ودعاه ورفاقه إلى حضرته ومجلسه، ونبذ حزب التعصب، وألحقه ببلاطة مرة أخرى، ولكن ابن رشد لم يمهله القدر لينعم برضا الأمير الذى أصبح يسانده، وتُوفى فى ذات العام سنة 1198، ونقل رفاته إلى قرطبة ليُدفن فى مقبرة الأسرة.
وقد ترك للبشرية تراثًا تليدًا، بنى عليه الغرب نظرياتهم وقواعدهم العلمية وتكمن قيمة وعظمة ابن رشد فى الضجة الهائلة التى أحدثها فى عقول الرجال لعدة قرون، يقول عنه الغزالى: «ابن رشد لم يدع إلى استخدام العقل أو استخدام المنهج البرهانى اعتباطا، بل وضع له شروطًا، فالتفكير الفلسفى له قواعده المنطقية، فيجب أن تدرسها لتكن من أهل البرهان، والمنطق والتأويل»، كما تحدث عنه ووصفه كثير من علماء الغرب والمؤرخين، منهم مؤرخ العلوم روث جلاسن، قال عنه: «كان عالما مفسرا، استحدث عدة فرضيات جديدة عن الطبيعة عن طريق مناقشة الكتابات القديمة». ويرى أن «أعماله كانت مهدا لنظريات وأفكار مبتكرة».
رحم الله ذلك الفيلسوف، العالم الذى احترم العقل وقدَّر قيمته، حين وطد مفهوم العلاقة بين ما يقرره العقل بالبرهان وما تتفق به الشريعة وأن كلا منهما يعبر عن الحق، وكذلك ما أقره من ضرورة النظر فى الموجودات وأن ذلك ليس بدعة، وينبغى أن نأخذ به ولا يمكن أن يتحقق لفرد واحد، فهو يحتاج إلى إسهام الجميع فى كل الأمم.