بعد انجلاء عاصفة التضخم الراهنة .. خريطة كونية جديدة للتوازنات الاقتصادية
بوابة الاقتصاد
ربما يكون التعبير الأكثر انتشارا في مناقشات الخبراء وتعليقات الاقتصاديين وأحاديث محافظي البنوك المركزية عبر العالم بلا استثناء، تعبير واحد لا ثاني له، هو “عودة التضخم”.
الطفرة التضخمية يشعر بها الجميع اليوم ولا يستثنى منها أحد، وإذا كانت حدتها تتفاوت من دولة إلى أخرى ومن شهر إلى آخر، يجب الإقرار بأنها باتت ظاهرة عالمية تطول الجميع، حيث ظن البعض بادئ الأمر أنها ستكون حصرا على الاقتصادات المتقدمة، تمتد وربما بدرجة أكثر سوءا إلى الأسواق الصاعدة والاقتصادات منخفضة النمو في آن واحد.
وعلى الرغم من اختلاف أسبابها من بلد إلى آخر، فإن هناك أيضا عوامل مشتركة بين الاقتصادات المختلفة، بغض النظر عن درجة التقدم الاقتصادي لهذا البلد أو ذاك.
وعلى أي حال وأيا كانت تعقيدات المشكلة وعواقبها الوخيمة على الاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمي، فإنه من الواضح حتى الآن، أن العبء الأكبر لحل المشكلة سيقع على عاتق البنوك المركزية عامة، والبنوك المركزية الكبرى على وجه التحديد.
لا شك أن القلق الذي يهيمن على صناع القرار الاقتصادي ومحافظي البنوك المركزية من عودة التضخم، تكمن أسبابه في انعكاساته السلبية المباشرة على مستوى معيشة المواطنين، لكن المخاوف من “عودة التضخم” هذه المرة، تفوق من وجهة نظر البعض قضية انخفاض مستوى المعيشة رغم خطورته، إذ إن معدلات التضخم الحالية ترتبط في جزء منها بتغيرات جيوسياسية، تجعل بعض الخبراء يرجحون أن تتشكل في العالم خريطة كونية جديدة للتوازنات الاقتصادية، بعد أن تنجلي عاصفة التضخم الراهنة.
ويشير إن. دي تومي، الباحث في مركز الإحصاءات الاقتصادية، إلى أن معدلات التضخم على المستوى العالمي ارتفعت إلى حد كبير في أعقاب ارتفاع أسعار السلع الأساسية العالمية، واختناقات سلاسل التوريد العالمية، وارتفاع أسعار الطاقة، وكذلك حزم التحفيز النقدية الضخمة منذ الأزمة المالية 2008، التي تكثفت مع جائحة كورونا، وكذلك سوق العمل الضيقة في الاقتصادات الرئيسة، ما غذى الزيادات المتواصلة في الأجور.
ويقول لـ”الاقتصادية”: “عاد التضخم بشكل أسرع من المتوقع، وارتفع بشكل ملحوظ، وأثبت أنه أكثر عنادا واستمرارية مما اعتقده قادة البنوك المركزية الكبرى في البداية، وبعد أن كانت العناوين الرئيسة تنظر للتضخم باعتباره مشكلة أمريكية، سريعا ما امتد إلى الاقتصادات الكبرى الأخرى، ومنها إلى باقي اقتصادات العالم”.
ويضيف: “من 15 دولة من أصل 34 دولة يصنفها صندوق النقد على أنها كيانات متطورة، فإن معدل التضخم فيها وصل إلى 5 في المائة خلال 2021، ولم يشهد العالم هذه القفزة المفاجئة والمشتركة في معدلات التضخم المرتفعة منذ أكثر من 20 عاما”.
بالطبع لا يقتصر الأمر على الاقتصادات الثرية، إذ تعاني 78 دولة من أصل 105 دولة تمثل الاقتصادات الناشئة والبلدان النامية معدلات تضخم سنوية تتجاوز 5 في المائة. وكان عدد الأسواق الصاعدة والبلدان النامية التي تعاني التضخم في 2020 لا يزيد على 39 دولة فقط، أي أن العدد تضاعف خلال عام واحد فقط.
أحد أبرز ملامح التضخم العالمي الراهن، هو أنه يترافق مع توترات جيوسياسية متزايدة بشكل حاد، أكثرها وضوحا الحرب الروسية – الأوكرانية، تلك التوترات الجيوسياسية تعني أن الاقتصاد العالمي يتغير، فهل يعد التضخم مساعدا إضافيا على تغير المشهد الكلي للاقتصاد الدولي؟.
يرى البروفيسور كولين ريف، أستاذ التجارة الدولية والاستشاري في منظمة التجارة العالمية، أن ارتفاع معدلات التضخم سيترك بصمات متعددة على المشهد الاقتصادي تتجاوز أزمة مستوى المعيشة، لتطول النماذج الاقتصادية ذاتها.
ويقول لـ”الاقتصادية”: إن “أبرز ملامح النظام الاقتصادي الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي يتمثل في تنامي العولمة وتداخل الاقتصاد العالمي، ويبرز ذلك في زيادة معدلات التجارة الدولية وتنامي معدلات الاستثمارات الدولية، والعولمة في جوهرها ما هي إلا تفكيك لاحتكار العملية الإنتاجية، بحيث إن السلعة الواحدة تكون محصلة تصنيع أجزائها المختلفة في دول عدة، والنتيجة ارتفاع حصة التجارة في الناتج المحلي الإجمالي، إذ قفزت تلك النسبة من 31 في المائة في القارة الأوروبية 1999 إلى نحو 54 في المائة قبل عامين، وفي الولايات المتحدة تبلغ 26 في المائة، وفي الصين نحو 34.5 في المائة، ارتفاع معدلات التضخم يدفع البعض لإعادة التفكير في فكرة العولمة ذاتها، إذ إن ارتفاع الأسعار محليا يرجع إلى تزايد الاعتماد على سلاسل التوريد، وعدم الاعتماد على الإنتاج الداخلي”.
ويرى البروفسير كولين ريف، أن الدعوات للحمائية الدولية ستزداد في الفترة المقبلة، وربما تجد دعما شعبيا نتيجة الربط بين فكرة ارتفاع الأسعار من جانب، والاعتماد على السلع المستوردة لا الإنتاج المحلي.
ويتخوف كثير من الخبراء أن يكون هذا النهج خاصة مع التوترات الجيوسياسية المتصاعدة مدخلا لزيادة اهتمام الدول ورجال الأعمال بالجوانب المتعلقة بالأمان الاقتصادي على حساب الكفاءة الاقتصادية، وقد أشار البنك المركزي الأوروبي في دراسة استقصائية، أن 46 في المائة من الشركات الألمانية، التي تعتمد على المدخلات الصينية نظرا لانخفاض تكلفتها، يخطط نصفهم لتقليل اعتماده على الصين بسبب توتر العلاقات الجيوسياسية، وثانيا بسبب عدم اليقين بشأن العرض وانعكاس ذلك على أسعار المدخلات المستوردة، ومن ثم على تكلفة العملية الإنتاجية.
لكن وجهة النظر أعلاه تواجه باعتراض من قبل بعض الخبراء، الذين يرون أن الدوافع الرئيسة لارتفاع التضخم ليست موحدة بين البلدان المختلفة، وأن العوامل التي أدت إلى الموجة التضخمية التي تضرب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية الآن، لا تتوافر في الأسواق الصاعدة أو البلدان منخفضة النمو، وبينما يمكن للولايات المتحدة أو أوروبا أو الصين التغلب على تحديات التضخم عبر إعادة تعديل نهجها الاقتصادي، وزيادة التوجه إلى الداخل، فإن الأمر لا يستقيم للأسواق الناشئة والبلدان منخفضة الدخل، إذ يعتمد الجزء الأكبر من إنتاجها الوطني على سلع ومواد خام تفتقر القدرة على تصنيعها أو استهلاكها التام.
ومن ثم، فإنها في حاجة ماسة لأسواق خارجية قادرة على التصدير إليها، وإلا واجهت الركود الاقتصادي بدلا من التضخم.
لكن البعض يرى أن الخطر الأكبر من ظاهرة التضخم العالمي الراهن، أنها تؤدي إلى مزيد من التشوهات في الاقتصاد الدولي، التي تزداد صعوبة التصدي لها مع مرور الوقت.
في هذا السياق، تشير لـ”الاقتصادية” راديكا دمين، الباحثة الاقتصادية، إلى أن عدم المساواة أحد أخطر الظواهر التي يعانيها المشهد الاقتصادي الدولي، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، وارتفاع معدلات التضخم يفاقم تلك المشكلة، فالتضخم حتى وإن تساوت معدلاته بين بلدين، فإن تأثيره يكون مختلفا، فتضخم بنسبة 5 في المائة على سبيل المثال، تأثيره في ألمانيا يختلف تماما عن تأثيره في كينيا، إذ سيكون أكثر حدة، فالسياسات المالية في ألمانيا مثلا أكثر قوة وفاعلية وأوسع نطاقا، ما يسمح بأن تمنح الفئات الضعيفة من المجتمع شبكة من الأمان الاجتماعي أكثر من نظيرتها في كينيا.
ويزداد الوضع تعقيدا من وجهة نظرها بتعرض عملات عديد من الأسواق الصاعدة والبلدان النامية لانخفاض في قيمتها، بسبب انخفاض تدفقات رأس المال الأجنبي وانخفاض التصنيف الائتماني، وهذا أدى إلى زيادة التضخم بالنسبة للسلع المستوردة، وبالطبع فإن توقعات التضخم في تلك الفئة من البلدان أكثر توافقا مع تحركات العملة أكثر مما هي عليه في الاقتصادات المتقدمة.
مع هذا، يرى بعض الخبراء أنه يجب النظر إلى الجانب الممتلئ من الكوب، حتى وإن بدت معدلات التضخم مرتفعة وذات تأثير سلبي في قطاعات واسعة من المواطنين والبلدان، ولكون الظاهرة ذات طبيعة عالمية وتنتشر في جميع البلدان، مع غياب حلول سريعة في الأفق للقضايا المتعلقة بسلاسل الإمداد والتوريد، فإن الأمر سيتطلب تنسيقا وتعاونا دوليا لا فرار منه.
وسيمثل التعاون بين البنوك المركزية الرئيسة وعدد محدود من نظرائهم في الاقتصادات الناشئة بداية لمحاولة السيطرة على الوضع، وذلك رغم تخوف بعض محافظي البنوك المركزية في البلدان الناشئة والنامية من أن ذلك سيعني في نهاية المطاف رفع أسعار الفائدة، ومن ثم رفع تكاليف التمويل الخارجي، ومفاقمة أزمة الديون، إلا أن هناك ما يشبه إجماع بأنه إذا تأخر المجتمع الدولي في حل مشكلة التضخم الآن، فإنه سيكون على الجميع تبني سياسات أكثر تشددا مستقبلا، التي ربما تدفع إلى الركود وزيادة حدة أزمة الديون في الوقت ذاته.