المعادن الروسية تهدد بإعادة تشكيل صناعة السيارات العالمية .. العقوبات تعرقل الإمدادات
بوابة الاقتصاد
وفقا لتقديرات شركات صناعة السيارات في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن روسيا وأوكرانيا لا يدخلان ضمن قائمة أفضل 100 مصنع لقطع غيار السيارات في العالم، مع هذا فإن تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية على صناعة السيارات ومستقبلها، يظل قويا إلى الحد الذي يدفع بعض الخبراء إلى الاعتقاد بأن القتال الدائر حاليا، يمكن أن يعيد تشكيل صناعة السيارات العالمية.
وبصرف النظر عن تلك القناعة، التي يرى آخرون بأن هناك مبالغة فيها، فإن الأغلبية العظمى من خبراء صناعة السيارات، يقرون بأن العقوبات الغربية، التي تعرضت لها روسيا، باعتبارها أحد أبرز منتجي المعادن في العالم، تركت – وستترك – بصمات غير مريحة على صناعة السيارات، التي تعاني عديدا من المصاعب، وتمر بمرحلة حاسمة في تطورها نتيجة المساعي الدولية للانتقال من عالم السيارات التقليدية التي تعمل بالوقود، إلى عصر السيارات الكهربائية.
ربما يكون التأثير السلبي الأول لتلك الحرب على صناعة السيارات ذا طبيعة جزئية وليس شاملة، بمعنى أنه لا يطول الصناعة بكاملها، وإنما يتعلق ببعض الشركات الرائدة، التي منيت بخسائر مالية ضخمة نتيجة خسارتها للسوق الروسية، التي تستوعب جزءا كبيرا من إنتاجها.
الخاسر الأكبر حتى الآن نتيجة فقدان السوق الروسية كان من نصيب شركة رينو الفرنسية، وعلى الرغم من التزام الشركة الصمت وعدم التعليق، إلا أنها خسرت ما يراوح بين 17 في المائة و25 في المائة من قيمتها السوقية نتيجة التدخل العسكري الروسي والعقوبات الدولية، حيث تعد روسيا ثاني أكبر سوق لشركة رينو.
يلي “رينو” الفرنسية في الخسائر مجموعة هيونداي الكورية الجنوبية، التي تمتلك 27.2 في المائة من شركة أفتوفاز الروسية لصناعة السيارات، يضاف إلى ذلك شركة فولكسفاجن الألمانية، التي تشكل 12.2 في المائة من إنتاج السيارات في روسيا.
مع هذا يقول توم أوليفر، الخبير في مجال التسويق الدولي إن سوق السيارات في روسيا لا تعد بالضخامة، التي يمكن أن تؤثر كثيرا في مسار صناعة السيارات.
ويقول لـ”الاقتصادية” إن “سوق السيارات الروسية تستوعب بين 1.6 مليون سيارة سنويا إلى حدود 1.8 مليون، تلك النسبة لا تمثل أكثر من 10 في المائة من مبيعات السيارات في الولايات المتحدة، ونحو 2 في المائة من المبيعات العالمية، وإذا بلغت المبيعات العالمية 82.4 مليون سيارة هذا العام، فإن فقدان السوق الروسية لا يتوقع أن يترك بصمات سلبية على مجمل المبيعات العالمية”.
ويضيف “مع هذا يمكن أن يتسبب تقلص سوق السيارات الروسية في مصاعب حادة لمبيعات بعض الشركات الأوروبية مثل “رينو” و”مرسيدس”، التي تعد السيارة المفضلة لدى الطبقات الروسية العليا”.
عند الحديث عن الحرب الدائرة في أوكرانيا وتأثيرها في صناعة السيارات العالمية، فربما يظهر الأثر بشكل أكثر وضوحا في إجبار الحرب شركات تصنيع السيارات على خفض الإنتاج، نتيجة توقف عمليات تسليم أنواع معينة من الكابلات الكهربائية المستخدمة في السيارات، وتنتج في مصانع أوكرانية لمصلحة عديد من مصنعي السيارات الأوروبية، وقد بات هذا الضرر واضحا على شركة فولكسفاجن الألمانية، حيث انخفض إنتاج السيارة من طراز أودي التابعة للمجموعة.
ويقول لـ”الاقتصادية” المهندس إل. سي. دين، رئيس قسم الأبحاث في شركة فيكسهول البريطانية لصناعة السيارات، “ستتأثر صناعة السيارات الأوروبية بشكل أكبر وأسرع من نظيرتها الأمريكية نتيجة الحرب والعقوبات، فعديد من الشركات الأوروبية تعتمد على أسلاك توصيل تصنع في أوكرانيا، كما أن انسحاب الشركات الأوروبية من الأسواق الروسية يعني انخفاضا حادا في إنتاجها، والمتوقع حاليا أن يتراجع إنتاج روسيا وأوكرانيا من السيارات إلى النصف، وهذا يمثل خسارة ضخمة لشركات تصنيع السيارات”.
وعلى الرغم من أن روسيا وأوكرانيا لا يعدان لاعبين رئيسين في سلاسل التوريد العالمية، لكن المشكلة أنه لا يمكن صنع سيارة إذا كنت تفتقد جزءا واحدا من بين آلاف القطع، التي تستخدم في تصنيعها.
وأعلنت جمعية مصنعي السيارات الألمانية “في دي أيه” أن الحرب الروسية – الأوكرانية أدت إلى تعطل طرق النقل، وكذلك المعاملات المالية، وأن الصناعة ستواجه نقصا في مجموعة من المواد الخام.
وقالت أيضا إن تأثير الصراع في الشحن والسكك الحديدية والشحن الجوي أدى إلى تفاقم المشكلات في سلسلة التوريد في وقت كانت فيه مستويات المخزون منخفضة بالفعل.
وأعلنت شركة مرسيدس بنز أنها ستخفض الإنتاج في بعض مصانعها الأوروبية، نظرا لتراجع الإمدادات من الأجزاء المصنعة في أوكرانيا، وتستخدم في تصنيع السيارات.
مع هذا، ترى الدكتورة كارول رولاد، أستاذة نماذج التصنيع في جامعة “كامبريدج” أن التحدي الأكبر أمام صناعة السيارات، يتعلق بكيفية تعاملها مع الارتفاع المتوقع في أسعار عديد من المعادن الرئيسة والضرورية في الصناعة، سواء بالنسبة للسيارات التي تعمل بالوقود أو السيارات الكهربائية وجزء كبير من تلك المعادن مصدره روسيا.
فالحرب والعقوبات قد تعوق إمدادات المواد الخام من روسيا، وتشمل هذه المواد البلاديوم المستخدم في معدات مكافحة التلوث في السيارات، التي تعمل بالنفط أو الغاز، وكذلك النيكل وهو مادة ضرورية لبطاريات السيارات الكهربائية، كما أن أوكرانيا مصدر رئيس لغاز النيون، الذي يستخدم في صناعة الرقائق الإلكترونية.
وتؤكد لـ”الاقتصادية” الدكتورة كارول رولاد أن بورصة المعادن في لندن أوقفت قبل أيام تداول معدن النيكل بعد ارتفاع أسعار المعدن 250 في المائة، وتضاعف الأسعار إلى مستوى قياسي بلغ 100 ألف دولار للطن، وكل هذا يعود إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، التي تعد منتجا رئيسا للمعدن.
بينما يعتقد المهندس براس فيكتور الاستشاري في عدد من شركات صناعة السيارات الكهربائية بأن مستقبل السيارات الكهربائية غائم الآن نتيجة العقوبات على روسيا.
ويقول لـ”الاقتصادية” إن “النيكل يستخدم في صناعة الفولاذ المقاوم للصداء، وإذا وضعنا في الحسبان أن نحو 40 في المائة من السيارة متوسطة الحجم يتكون من الفولاذ، وأن روسيا أنتجت العام الماضي 108 ملايين طن من الحديد، وهي خامس أكبر منتج في العالم لخام الحديد، فإنه لا يمكن تجاهل روسيا عند الحديث عن صناعة السيارات”.
وأضاف “كما أن النيكل مكون كبير في بطاريات السيارات الكهربائية، وروسيا تنتج 5 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي، وشركة نوريلسك الروسية أكبر منتج للنيكل في العالم، وتصنع نحو 17 في المائة من النيكل عالي الجودة في العالم، وروسيا توفر 20 في المائة من احتياجات السوق العالمية من النيكل عالي الجودة، ولهذه العوامل، فإن صناعة السيارات بشقيها التقليدي والكهربائي أمام تهديد حقيقي”.
ومن المعروف أن النيكل مكون رئيس في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، حيث إن البطاريات واحدة من أغلى أجزاء السيارة الكهربائية إن لم تكن المكون الأغلى فيها، فإن التوقعات الراهنة تشير إلى احتمال ارتفاع تكلفة الإنتاج، ومن ثم تراجع الطلب، في وقت يحتمل بشكل كبير أن يتراجع الطلب العالمي على السيارات التقليدية أيضا نتيجة ارتفاع أسعار البنزين والغاز أيضا.
وتزداد مشكلات صناع السيارات تعقيدا نتيجة أن كثيرا من المواد الخام الضرورية للصناعة تأتي من روسيا، وليس النيكل فقط، فالألمونيوم يمثل 11 في المائة في المتوسط من إجمالي المعادن المستخدمة في تصنيع السيارة، وروسيا هي سادس أكبر مصدر عالمي للألومنيوم، وكانت الأسواق حتى قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، تواجه عجزا واضحا بسبب توقف الإنتاج في أحد أكبر المصانع الصينية، ومن ثم يرجح أن تشهد الأسواق نقصا كبيرا في المعدن، الذي ارتفعت أسعاره 25 في المائة.
أما البلاديوم الضروري لكل من السيارات الكهربائية والسيارات التي تستخدم الوقود وتمثل الأغلبية العظمى من مبيعات السيارات العالمية، فإنه يأتي كذلك من روسيا، التي تمثل 40 في المائة من السوق العالمية، وقد ارتفعت أسعار المعدن 61 في المائة أخيرا.
ويرجع البعض الموقف الألماني الذي لا يبدي ذات الدرجة من الاندفاع، التي يبديها الجانب الأمريكي والبريطاني لفرض عزلة تامة على الاقتصاد الروسي، ليس فقط لحاجة ألمانيا إلى موارد الطاقة الروسية من غاز ونفط، وإنما أيضا لأن الشركات الروسية تعد من الموردين الرئيسين للمعادن للصناعات الألمانية، خاصة صناعة السيارات، ففي 2020 مدت روسيا ألمانيا بـ44 في المائة من احتياجاتها من النيكل، و41 في المائة من التيتانيوم، وثلث متطلباتها من الحديد، و18 في المائة من البلاديوم.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية” الدكتور جورج ديفيد، أستاذ الاقتصاد الصناعي، “الخطورة تكمن في أن هناك منافسة شديدة بين الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية من جانب والصين من جانب آخر، فيما يتعلق بصناعة السيارات عامة والكهربائية على وجه التحديد، وحرمان صناعة السيارات الأمريكية والأوروبية من المعادن الروسية نتيجة العقوبات مع الوضع في الحسبان أنه لم تفرض عقوبات مباشرة على الإنتاج الروسي من المعادن، لكن هناك عديد من العقوبات المالية، التي تعوق عملية الشراء، فهذا الوضع المعقد قد يعني في الواقع العملي أن ينتهي عديد من المعادن الروسية الضرورية لصناعة السيارات الكهربائية لدى الصين ويحرم منها الغرب، ما يضع الصين في موقف أفضل لتطوير صناعتها من السيارات خاصة الكهربائية، وهذا يعني تغييرا تاما في هيكل صناعة السيارات العالمي، نظرا للدور الرائد الذي ستلعبه صناعة السيارات الكهربائية مستقبلا داخل الصناعة ككل”.
وتشير التقديرات المتاحة حتى الآن إلى أن متوسط تكلفة السيارة الجديدة قد ارتفع في الولايات المتحدة الأمريكية بنحو 13 في المائة العام الماضي، ويمكن أن يرتفع أيضا هذا العام 20 في المائة نتيجة الزيادة الكبيرة في تكلفة الإنتاج، ما يعني ارتفاع أسعار السيارات.
وبدوره، يؤكد لـ”الاقتصادية” سيمون بلاك سميث، أستاذ التجارة الدولية في جامعة لندن أن هذه الأنواع من صدمات العرض كان يمكن للاقتصاد العالمي أن يمتصها أو يمتص جزءا كبيرا منها في ظل بيئة غير تضخمية.
ويقول “ولكننا الآن ومنذ شهور عديدة نواجه بيئة تضخمية لكثير من العوامل، وزادت الأمور تدهورا نتيجة الحرب في أوكرانيا، فأسعار السيارات لن ترتفع فقط لنقص المعروض من المعادن الرئيسة في الأسواق، فهناك أيضا ارتفاع ناجم عن زيادة تكلفة النقل، حيث 90 في المائة من البضائع المستوردة في الولايات المتحدة تصل إليها في حاويات”.
ويشير إلى أن التحدي الراهن أمام صناعة السيارات معقد للغاية، وسيتطلب من إدارات الشركات الكبرى إعادة النظر في استراتيجيتها على الأمد الطويل، نظرا لأن العقوبات الراهنة قد تمتد لعقود قبل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب الروسية – الأوكرانية.