آخر الاخبار

((التخطيط والإعداد في القرآن الكريم سورة يوسف عليه السلام نموذجاً)) (1)

للأستاذ الدكتور/ محمد حامد محمد سعيد
الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين وعلوم القرآن واللغة العربية
جامعة السلطان عبدالحليم معظم شاه الإسلامية العالمية (UniSHAMS)
ولاية قدح – ماليزيا

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد؛؛؛؛؛
من الأمور التي نتفق عليها جميعاً أن القرآن الكريم قد احتوى على كل شيء، فكل ما تحتاج الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد؛؛؛؛؛
من الأمور التي نتفق عليها جميعاً أن القرآن الكريم قد احتوى على كل شيء، فكل ما تحتاج كائن بين آياته وسوره، فالماضي كائن في القرآن، وواقعنا الحاضر كائن في القرآن، والمستقبل كائن في القرآن، أكد هذا المعنى ما ورد في سنن الدارمي باب فضل من قرأ القرآن بحديث رقم ( 3374) حيث ورد عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: “كِتَابُ اللَّهِ، كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ، قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ، أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1] هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”.
ومن الموضوعات التي احتوت عليها آيات القرآن الكريم وسوره موضوع الإعداد والتخطيط الكائن فيه ونأخذ مثالاً على ذلك من خلال سورة يوسف عليه السلام -وهذا الموضوع سوف يكون عبارة عن سلسلة تُنشر تباعاً بإذن من الله تعالى-
نبدأها بــــــ:
أولاً : تعريف مفهوم التخطيط في اللغة والاصطلاح:
نود أولاً التعريف لمفهوم لفظة التخطيط فهو من: “خطط” خطه ويقال خطط الأرض والبلاد جعل لها خطوطاً وحدوداً والمكان قسمه وهيأه للعمارة، ووضع خطة مدروسة للنواحي الاقتصادية والتعليمية والإنتاجية وغيرها للدولة”(إبراهيم مصطفى، وأخرون (بدون)).
أما لفظة التخطيط في الاصطلاح فنعنى: “تصميم المستقبل المؤمل وتطوير الخطوات الفعالة لتحقيقه…..فالتخطيط فن إداري وبقدر ما يكون التخطيط منطقياً يتواكب مع المعطيات والإمكانات الموجودة بقدر ما يكون وسيلة من وسائل تحقيق الوقت الفعال”(الخالدي، بدون).
ومن خلال التعريف اللغوي والاصطلاحي يبدو واضحاً استخدام السورة المباركة للفظة التخطيط بمضمونها وذلك من خلال سيدنا يوسف عليه السلام وتخطيطه وإعداده ودراسته للخطط التي من خلالها يستطيع النهوض بدولته في شتى المجالات الحياتية وهذا ما سيظهر من خلال معايشتنا لهذا الأسلوب.
ثانياً : نماذج من التخطيط الواردة في السورة المباركة:
من نماذج التخطيط الواردة في السورة المباركة ما قصته علينا السورة من بدايتها وذلك من خلال ما فعله إخوة يوسف حين شعروا أن أباهم يحبه أكثر مما يحبهم، ويفضله عليهم، فدبت الغيرة في نفوسهم وقرروا التخلص منه، فماذا هم فاعلون؟ تدارسوا الأمر بينهم وبدأوا بالتخطيط فيما بينهم البعض قائل بالقتل، والبعض الآخر قائل بإلقائه في قاع البئر، ولا شك أن هذه الفكرة أخف من القتل، وإن كانت في حق الأخوة قاسية جداً وهكذا يفعل الإخوة بأخيهم -وليس هذا على الدوام والاستمرار- قلبوا وجوه الأمر فرأوا أن إلقاءه في الجُب أسلم لهم، وما زال التخطيط الشيطاني متواصلاً مع إخوة يوسف حيث بدأوا مرحلة ثانية من تدبرهم وتخطيطهم الخبيث حيث جاءوا إلى أبيهم يقنعونه بأن يسمح لهم باصطحاب يوسف في رحلة برية ترفيهية وأكدوا له حرصهم على أخيهم يوسف، فكيف للذئب أن يأكله من وسطهم وهم جمع وليسوا بقلة، وبدأت المرحلة الثالثة من تخطيطهم الخادع الماكر والمتمثل في: أنهم جاءو إلى أبيهم ليلاً، وبدأوا يبكون، فشعر يعقوب بأن مصيبة وقعت وهنا تهيأ لسماعها، بدأوا الكلام بقولهم يا أبانا وهذا على سبيل الاستعطاف وكذلك إيهام يعقوب بأنهم ما فرطوا ولا قصروا في حق أخيهم يوسف، واكتمل تخطيطهم الحقير بأن لخطوا ثياب يوسف بالدم للتأكيد على أكل الذئب له.
لكن هذا التخطيط المحكم الدقيق الشيطاني نقصه خطأ كبير وقعوا فيه دون أن يشعروا، فالعقل يقول كيف يأكل الذئب يوسف ولم يمزق ثيابه؟ فهل الذئب يحب يوسف لدرجة أن يأكله دون تمزق وتقطيع للثياب؟ أم إنه يستأذنه ليخلع ثيابه ثم يأكله حتى لا ينقطع الثياب ويمزق؟ إنه حقاً لذئب حنون.
“روي أن يعقوب قال استهزاء: ما رأيت كاليوم ذئباً أحلَم من هذا، أكل ابني ولم يمزق قميصه”(الطاهر بن عاشور، 1997).
إنه التخطيط الدقيق المحكم الذي هو أحد أساليب إخوة يوسف ليتخلصوا من حُب يعقوب ليوسف، ولكن حالت إرادة الله تعالى دون إتمامه وإكماله.
مثّل هذا التخطيط والإعداد للتخلص من يوسف من إخوته الآيات الكريمات من قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}[يوسف:18:7].
إن مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه حين بلغ مبلغ الرجال، لم يكن ذلك إلا من خلال عدة طرق تخطيطية سلكتها لتنال يوسف عليه السلام.
ولقد خطط يوسف عليه السلام في استقدام أخيه” بنيامين” إلى مصر من بلاد الشام -فلسطين- إلى غير ذلك من المواقف التي يشيع منها التخطيط ونحن غافلون عنها…..إلخ.
ثالثاً : رؤية الملك وتخطيط سيدنا يوسف وإعداده لإنقاذ مصر من المجاعة المحققة:
مما وقفنا عليه في هذه السورة من أسلوب للتخطيط وذلك من أجل إنجاح العمل الدعوي ما نلاحظه جيداً من خلال قوله تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}[ يوسف49:43].
في هذه الآيات الكريمات مثال واضح جليّ للدعاة إلى الله تعالى بمدى أهمية التخطيط والإعداد وذلك من أجل نجاح دعوتهم، وقد ضرب سيدنا يوسف عليه السلام أروع الأمثلة على ذلك من خلال الآيات التي معنا فهو عليه السّلام قد تأول:”البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين محصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بمجيء عام يغاث فيه الناس أي يأتيهم الغيث وهو المطر، وتغل البلاد، ويعصر الناس فيه ما كانوا يعصرون عادة من زيت الزيتون وسكر القصب وشراب التمر والعنب ونحوها، وهذا الإخبار بمغيبات المستقبل من وحي اللّه وإلهامه، لا مجرد تعبير للرؤيا، فهو بشارة في العام الخامس عشر بعد تأويل الرؤيا بمجيء عام مبارك خصيب، كثير الخير، غزير النعم، وهو إخبار من جهة الوحي”(الزحيلي، 1418هـ).
“تزرعون على معنى ازرعوا سبع سنين قمحاً وشعيراً دائبين مجدين بلا انقطاع وإذا فعلتم ذلك فما حصدتموه فاتركوه في سنبله ليكون الحب لكم والتبن لدوابكم وهذه طريقة علمية دقيقة لحفظ المحصول، اصنعوا هذا في المحصول كله إلا قليلاً مما تأكلون فهذا هو تأويل البقرات السبع والسنابل السبع، ثم يأتي بعد ذلك سبع سنين شداد في جدبهن وانقطاع الخير فيهن، يأكلن ما قدمت تلك السنين الأولى من المحصول المدخر والمراد ما في تلك السنين، تأكل الكل إلا قليلاً مما تحصنون وتدخرون للبذر، ثم يأتي من بعد هذا كله عام فيه يكون الرخاء على أتم ما يكون وأحبه عام فيه يغاث الناس بكل أنواع الإغاثة من مطر وحُسن محصول ومنع للآفات وفي هذا العام تعصرون عصير القصب والفاكهة، وعصير العنب والسمسم والزيتون … إلخ، وهذا الإخبار الأخير الخاص بهذا العام من قبيل الوحى والإلهام لا جزءاً من تأويل الرؤيا”(حجازي: بدون).
“ولما كان المعلوم للّه والمحكوم أن يوسف عليه السلام يكون في ذلك الوقت هو من يعبّر الرؤيا، قبض الله القلوب حتى خفي عليها تعبير تلك الرؤيا، ولم يحصل للملك ثلج الصّدر إلا بتعبير يوسف، ليعلم أنّ اللّه سبحانه إذا أراد أمراً سهل أسبابه، ويقال: إن اللّه تعالى أفرد يوسف عليه السلام من بين أشكاله بشيئين: بحُسن الخِلقة، وبزيادة العلم فكان جماله سبب بلائه، وصار علمه سبب نجاته، لتعلم مزيّة العلم على غيره، لهذا قيل: العلم يعطى وإن كان يُبطىء”(القشيري، بدون).
وللحديث بقية

كائن بين آياته وسوره، فالماضي كائن في القرآن، وواقعنا الحاضر كائن في القرآن، والمستقبل كائن في القرآن، أكد هذا المعنى ما ورد في سنن الدارمي باب فضل من قرأ القرآن بحديث رقم ( 3374) حيث ورد عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: “كِتَابُ اللَّهِ، كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ، قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ، أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1] هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”.
ومن الموضوعات التي احتوت عليها آيات القرآن الكريم وسوره موضوع الإعداد والتخطيط الكائن فيه ونأخذ مثالاً على ذلك من خلال سورة يوسف عليه السلام -وهذا الموضوع سوف يكون عبارة عن سلسلة تُنشر تباعاً بإذن من الله تعالى-
نبدأها بــــــ:
أولاً : تعريف مفهوم التخطيط في اللغة والاصطلاح:
نود أولاً التعريف لمفهوم لفظة التخطيط فهو من: “خطط” خطه ويقال خطط الأرض والبلاد جعل لها خطوطاً وحدوداً والمكان قسمه وهيأه للعمارة، ووضع خطة مدروسة للنواحي الاقتصادية والتعليمية والإنتاجية وغيرها للدولة”(إبراهيم مصطفى، وأخرون (بدون)).
أما لفظة التخطيط في الاصطلاح فنعنى: “تصميم المستقبل المؤمل وتطوير الخطوات الفعالة لتحقيقه…..فالتخطيط فن إداري وبقدر ما يكون التخطيط منطقياً يتواكب مع المعطيات والإمكانات الموجودة بقدر ما يكون وسيلة من وسائل تحقيق الوقت الفعال”(الخالدي، بدون).
ومن خلال التعريف اللغوي والاصطلاحي يبدو واضحاً استخدام السورة المباركة للفظة التخطيط بمضمونها وذلك من خلال سيدنا يوسف عليه السلام وتخطيطه وإعداده ودراسته للخطط التي من خلالها يستطيع النهوض بدولته في شتى المجالات الحياتية وهذا ما سيظهر من خلال معايشتنا لهذا الأسلوب.
ثانياً : نماذج من التخطيط الواردة في السورة المباركة:
من نماذج التخطيط الواردة في السورة المباركة ما قصته علينا السورة من بدايتها وذلك من خلال ما فعله إخوة يوسف حين شعروا أن أباهم يحبه أكثر مما يحبهم، ويفضله عليهم، فدبت الغيرة في نفوسهم وقرروا التخلص منه، فماذا هم فاعلون؟ تدارسوا الأمر بينهم وبدأوا بالتخطيط فيما بينهم البعض قائل بالقتل، والبعض الآخر قائل بإلقائه في قاع البئر، ولا شك أن هذه الفكرة أخف من القتل، وإن كانت في حق الأخوة قاسية جداً وهكذا يفعل الإخوة بأخيهم -وليس هذا على الدوام والاستمرار- قلبوا وجوه الأمر فرأوا أن إلقاءه في الجُب أسلم لهم، وما زال التخطيط الشيطاني متواصلاً مع إخوة يوسف حيث بدأوا مرحلة ثانية من تدبرهم وتخطيطهم الخبيث حيث جاءوا إلى أبيهم يقنعونه بأن يسمح لهم باصطحاب يوسف في رحلة برية ترفيهية وأكدوا له حرصهم على أخيهم يوسف، فكيف للذئب أن يأكله من وسطهم وهم جمع وليسوا بقلة، وبدأت المرحلة الثالثة من تخطيطهم الخادع الماكر والمتمثل في: أنهم جاءو إلى أبيهم ليلاً، وبدأوا يبكون، فشعر يعقوب بأن مصيبة وقعت وهنا تهيأ لسماعها، بدأوا الكلام بقولهم يا أبانا وهذا على سبيل الاستعطاف وكذلك إيهام يعقوب بأنهم ما فرطوا ولا قصروا في حق أخيهم يوسف، واكتمل تخطيطهم الحقير بأن لخطوا ثياب يوسف بالدم للتأكيد على أكل الذئب له.
لكن هذا التخطيط المحكم الدقيق الشيطاني نقصه خطأ كبير وقعوا فيه دون أن يشعروا، فالعقل يقول كيف يأكل الذئب يوسف ولم يمزق ثيابه؟ فهل الذئب يحب يوسف لدرجة أن يأكله دون تمزق وتقطيع للثياب؟ أم إنه يستأذنه ليخلع ثيابه ثم يأكله حتى لا ينقطع الثياب ويمزق؟ إنه حقاً لذئب حنون.
“روي أن يعقوب قال استهزاء: ما رأيت كاليوم ذئباً أحلَم من هذا، أكل ابني ولم يمزق قميصه”(الطاهر بن عاشور، 1997).
إنه التخطيط الدقيق المحكم الذي هو أحد أساليب إخوة يوسف ليتخلصوا من حُب يعقوب ليوسف، ولكن حالت إرادة الله تعالى دون إتمامه وإكماله.
مثّل هذا التخطيط والإعداد للتخلص من يوسف من إخوته الآيات الكريمات من قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}[يوسف:18:7].
إن مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه حين بلغ مبلغ الرجال، لم يكن ذلك إلا من خلال عدة طرق تخطيطية سلكتها لتنال يوسف عليه السلام.
ولقد خطط يوسف عليه السلام في استقدام أخيه” بنيامين” إلى مصر من بلاد الشام -فلسطين- إلى غير ذلك من المواقف التي يشيع منها التخطيط ونحن غافلون عنها…..إلخ.
ثالثاً : رؤية الملك وتخطيط سيدنا يوسف وإعداده لإنقاذ مصر من المجاعة المحققة:
مما وقفنا عليه في هذه السورة من أسلوب للتخطيط وذلك من أجل إنجاح العمل الدعوي ما نلاحظه جيداً من خلال قوله تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}[ يوسف49:43].
في هذه الآيات الكريمات مثال واضح جليّ للدعاة إلى الله تعالى بمدى أهمية التخطيط والإعداد وذلك من أجل نجاح دعوتهم، وقد ضرب سيدنا يوسف عليه السلام أروع الأمثلة على ذلك من خلال الآيات التي معنا فهو عليه السّلام قد تأول:”البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين محصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بمجيء عام يغاث فيه الناس أي يأتيهم الغيث وهو المطر، وتغل البلاد، ويعصر الناس فيه ما كانوا يعصرون عادة من زيت الزيتون وسكر القصب وشراب التمر والعنب ونحوها، وهذا الإخبار بمغيبات المستقبل من وحي اللّه وإلهامه، لا مجرد تعبير للرؤيا، فهو بشارة في العام الخامس عشر بعد تأويل الرؤيا بمجيء عام مبارك خصيب، كثير الخير، غزير النعم، وهو إخبار من جهة الوحي”(الزحيلي، 1418هـ).
“تزرعون على معنى ازرعوا سبع سنين قمحاً وشعيراً دائبين مجدين بلا انقطاع وإذا فعلتم ذلك فما حصدتموه فاتركوه في سنبله ليكون الحب لكم والتبن لدوابكم وهذه طريقة علمية دقيقة لحفظ المحصول، اصنعوا هذا في المحصول كله إلا قليلاً مما تأكلون فهذا هو تأويل البقرات السبع والسنابل السبع، ثم يأتي بعد ذلك سبع سنين شداد في جدبهن وانقطاع الخير فيهن، يأكلن ما قدمت تلك السنين الأولى من المحصول المدخر والمراد ما في تلك السنين، تأكل الكل إلا قليلاً مما تحصنون وتدخرون للبذر، ثم يأتي من بعد هذا كله عام فيه يكون الرخاء على أتم ما يكون وأحبه عام فيه يغاث الناس بكل أنواع الإغاثة من مطر وحُسن محصول ومنع للآفات وفي هذا العام تعصرون عصير القصب والفاكهة، وعصير العنب والسمسم والزيتون … إلخ، وهذا الإخبار الأخير الخاص بهذا العام من قبيل الوحى والإلهام لا جزءاً من تأويل الرؤيا”(حجازي: بدون).
“ولما كان المعلوم للّه والمحكوم أن يوسف عليه السلام يكون في ذلك الوقت هو من يعبّر الرؤيا، قبض الله القلوب حتى خفي عليها تعبير تلك الرؤيا، ولم يحصل للملك ثلج الصّدر إلا بتعبير يوسف، ليعلم أنّ اللّه سبحانه إذا أراد أمراً سهل أسبابه، ويقال: إن اللّه تعالى أفرد يوسف عليه السلام من بين أشكاله بشيئين: بحُسن الخِلقة، وبزيادة العلم فكان جماله سبب بلائه، وصار علمه سبب نجاته، لتعلم مزيّة العلم على غيره، لهذا قيل: العلم يعطى وإن كان يُبطىء”(القشيري، بدون).
وللحديث بقية

زر الذهاب إلى الأعلى