عبدالحميد العمري يكتب: تضخم عالمي غير مسبوق يلوح في الأفق
بوابة الاقتصاد
في الوقت الذي لم يكد الاقتصاد العالمي أن يتعافى تدريجيا من تداعيات كوفيد – 19، سرعان ما باغتته صدمة اشتعال الصراع الروسي – الأوكراني، وما نتج عنها من عقوبات متتالية على روسيا الاتحادية، وصلت بموجاتها المتصاعدة حتى تاريخه إلى سدة محاصرتها على منصة التجارة العالمية، وكما يبدو من التداعيات المصاحبة للصدام الراهن المتصاعد الوتيرة، تصاعد واتساع دائرة العقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي، التي أدت وستؤدي إلى مزيد من الآثار العكسية الشديدة على أسواق المال والعملات والطاقة والسلع والمعادن، وغوصها مجتمعة في موجات حادة من الارتفاعات والتقلبات غير المسبوقة، ووصول أسعار عديد من السلع والمعادن إلى مستويات تاريخية لم يسبق أن وصلت إليها من قبل، منذرة بمستويات من التضخم الكاسح الذي ستمتد موجاته إلى جميع الاقتصادات حول العالم، وتسببه إلى جانب كبحه النمو الاقتصادي العالمي في زيادة زعزعة كل من أمن الطاقة والأمن الغذائي في أغلبية البلدان الأدنى دخلا، حسب التصريحات الأخيرة لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو”، وقس على ذلك الكثير من التداعيات العكسية المحتملة الحدوث، في حال طال الأمد الزمني للصراع الروسي – الأوكراني، التي ستمتد إلى أغلبية أشكال الحياة المعاصرة في مختلف أنحاء العالم، بارتفاع الأسعار إلى مستويات سيصعب على واضعي السياسات الاقتصادية التكيف سريعا معها، ويزيد من تعقيدات إقرار الحلول المناسبة للتصدي لآثارها، وهو ما بدأت ملامحه الأولية تظهر في عديد من البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء قبل أن يكمل الصراع الروسي – الأوكراني أسبوعه الثالث منذ نشوبه.
ليس ما تقدم فحسب هو ما سيؤدي إلى زيادة ارتفاع حدة التضخم، بل سيدفعها في حال استمر الصراع أو اتسع نطاقه جغرافيا بامتداده إلى حدوث اضطرابات في سلاسل القيمة العالمية، وارتفاع تكاليف الشحن والنقل والتأمين، التي ستترك آثارا أكثر إيلاما مما تركته تداعيات التفشي العالمي لكوفيد – 19 على الإمدادات، خاصة أن كثيرا من أنحاء الاقتصاد العالمي لم يتعاف بعد من آثار كوفيد – 19، بما سيضاعف من الضغوط التضخمية على تلك البلدان أكثر من غيرها، ويتسبب في وقوعها في أزمات خطيرة مرتبطة بانتشار المجاعات وفقدان مئات الآلاف وظائفهم، قد تؤدي إلى نشوب صدامات أهلية قاسية في تلك البلدان، وما سيؤدي إليه ذلك من استدعاء لمعونات دولية من بقية أنحاء العالم، المنهك اقتصاديا وماليا في الأصل من آثار أزمتي كوفيد – 19 والصراع الراهن بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما سيمثل في مجمله تحديات عملاقة أمام واضعي السياسات الاقتصادية حول العالم، ستكون بكل تأكيد أكبر بكثير مما سبق مواجهته خلال قرن من الزمن منذ الكساد الكبير.
يشكل الغذاء في المتوسط ما بين 20 و30 في المائة ضمن معادلة احتساب التضخم، ما يعني أنه في حال سجل معدلات ارتفاع سنوية تصل إلى نحو 20 في المائة حسب التوقعات الأولية لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو”، فإنه سيؤدي بافتراض ثبات بقية فئات الإنفاق الرئيسة الأخرى إلى ارتفاع معدل التضخم قد يصل إلى نحو 4.0 في المائة، وفي حال سجل الغذاء ارتفاعا أكبر بمعدل سنوي يقارب 50 في المائة، وهو الأمر المحتمل حدوثه متى ما طال الأمد الزمني للأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة، فهذا سيقود إلى ارتفاع معدل التضخم إلى ما بين 9.0 و10.0 في المائة.
وبالنظر برؤية أقرب إلى الواقع التي تحتمل عودة التضخم إلى الارتفاع مجددا خلال العام الجاري، قياسا على التطورات العالمية الراهنة، فلا شك أن معدل التضخم مرشح للارتفاع على مستوى جميع الاقتصادات حول العالم، وبنسب متفاوتة إلا أنها في الأغلب ستجتمع حول قمم مرتفعة مزعجة لأي اقتصاد كان. وحسبما توقع البنك المركزي الأوروبي محذرا أن التضخم قد يصل في منطقة اليورو إلى 7.1 في المائة خلال العام الجاري، وسيحد بدوره من النمو الاقتصادي للمنطقة إلى أدنى من 2.3 في المائة، وهو المعدل المرتفع بالتأكيد الذي سيشكل تحديا لدى منطقة اليورو وفي أغلبية البلدان حول العالم، الذي سيتطلب إقرار كثير من السياسات الاقتصادية المضادة له.
يبقى الأمر مرهونا بالخيارات المتاحة أمام واضعي السياسات الاقتصادية، التي يمكن الاعتماد عليها في مواجهة هذه التحديات، والعمل على اتخاذها بما سيؤدي إلى السيطرة على أكبر قدر ممكن من آثارها العكسية، وقد تأتي السياسات الاقتصادية المحتملة مزيجا من الخيارات، التي قد تبدأ بزيادة الدعم من قبل الحكومات حول العالم للسلع الاستهلاكية الضرورية، مرورا بإقرار عديد من الدعم المالي المباشر لمصلحة الفئات المجتمعية الأكثر احتياجا، انتهاء باستمرار سياسات التيسير والتحفيز اللازم للاقتصادات، أسوة بما تم اتخاذه من إجراءات تحفيزية غير مسبوقة إبان التصدي لتداعيات تفشي الجائحة العالمية لكوفيد – 19 خلال 2020 – 2021، كان لها الدور الكبير في تعزيز استقرار الاقتصادات والأسواق العالمية، ومساهمته أيضا في إعادة أجزاء مهمة من أشكال التعافي الاقتصادي عموما، لولا اصطدامها أخيرا بالأزمة الراهنة تحت مظلة الصراع الروسي – الأوكراني.
- نقلاً عن صحيفة “الاقتصادية”.