سفن محاصَرة وبضائع نحتاجها بشدة قد لا تصل أبداً.. الحرب بأوكرانيا تصيب الشحن البحري في مقتل
بوابة الاقتصاد
من بين 1.89 مليون بحّار حول العالم، 10% من روسيا و4% من أوكرانيا، وإغلاق الموانئ في وجه السفن الروسية بسبب العقوبات، إضافة إلى مخاطر الحرب يجعل الشحن البحري في حالة فوضى، فماذا يعني ذلك؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه “الهجوم الروسي في أوكرانيا يُسبِّب أزمة في البحار”، رصد تبعات العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، منذ بدء الهجوم على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط الماضي، وبصفة خاصة ما يتعلق بالشحن البحري.
إذ منعت المملكة المتحدة السفن الروسية من أن ترسو بموانئها، ويوشك أن يحذو الاتحاد الأوروبي حذوها، ولن ترسو بعد الآن سفن أكبر ثلاثة خطوط شحن في العالم بموانئ روسيا، وأُغلقت موانئ أوكرانيا.
الهجوم الروسي في أوكرانيا يعيث فساداً بالشحن البحري العالمي، الذي ينقل حوالي 80% من تجارة العالم. فالسفن الآن تُبحر في مياه المحيطات وتعجز عن تسليم الشحنات أو تسلُّمها، بينما توجد حوالي 140 سفينة تجارية أخرى عالقة في موانئ أوكرانيا، وتواجه خطر الإصابة بالنيران، وينفد من أطقمها الطعام والمؤن الأخرى. يجب أن يكترث بقية العالم لموقفهم البائس، أو على الأقل النظر إلى أن الشحنات التي يحملونها ضروريةٌ لمتطلبات حياتنا اليومية.
ناقلات نفط وسفن شحن عالقة في البحار
في 1 مارس/آذار، واجهت ناقلة النفط “إن إس تشامبيون” مشكلة مُلحّة. كانت السفينة متجهة نحو مستودع نفط أوركني في اسكتلندا. ومثلما هو الحال مع عديد من سفن الشحن تبحر السفينة إن إس تشامبيون حاملةً علم ليبيريا، لكنها مملوكة لشركة Sovcomflot، أكبر شركات الشحن في روسيا، التي وضعتها الحكومة الأمريكية، في 24 فبراير/شباط، على قائمة الشركات التي تخضع لعقوبات.
ومع ذلك، تملك الحاوية الحق في أن ترسو لمرة تالية، نظراً إلى أن العقوبات لا تؤثر على السفن التي خرجت في مسارها فعلياً، ولكن قبل أن تصل أعلنت الحكومة البريطانية على الفور أنها كانت تغلق موانئها أمام الحاويات الروسية. اضطرت تشامبيون أن تبحر مرة أخرى، ولم يُسلَّم النفط، وكانت محطتها التالية في ميناء سكايجن الدنماركي.
وقريباً جداً لن تكون قادرة على تسليم النفط هناك أيضاً، والسبب أن الاتحاد الأوروبي يُتوقع له أن يحذو حذو المملكة المتحدة، ويغلق موانئه أمام الحاويات التي تُسيّرها شركات روسية، أو التي تبحر حاملة العلم الروسي. وقد طبقت كندا ذلك فعلياً.
أعلنت شركة البحر الأبيض المتوسط للملاحة (MSC)، التي تتخذ من سويسرا مقراً لها، وهي أكبر شركات الشحن في العالم، أنها تعلق جميع حركات الحاويات من وإلى روسيا. كذلك فعلت الشركتان الأخريان، اللتان تمثلان، مع MSC، أكبر ثلاث شركات شحن في العالم: ميرسك سيلاند الدنماركية، وسي إم إيه- سي جي إم الفرنسية. وأعلنت نفس الأمر شركة أوشين نتورك إكسبريس، التي تتخذ من سنغافورة مقراً لها، وهاباج لويد، المستقرة في ألمانيا، ولن تسلم هذه الشركات أي شحنات سوى المساعدات الإنسانية، التي تُفهم عادةً أنها غذاء ومستلزمات طبية.
يعني ذلك أن روسيا قد تُعزل عن بقية العالم، ولن تكون قادرة على إرسال واستقبال البضائع إلا عن طريق شركات شحن آسيوية في الأساس، مثل شركة COSCO الصينية. وفي غضون ذلك عُزلت أوكرانيا بالفعل عن بقية العالم. فقبل أسبوع من بدء الهجوم الروسي أعلنت شركات التأمين البحري وضع مناطق روسيا وأوكرانيا المطلة على البحر الأسود وبحر آزوف، على القائمة الحمراء، ما يعني أن إبحار السفن عبر مياههما سيكون صعباً وباهظاً. عندما شنت روسيا هجومها في الشهر الماضي، أغلقت أوكرانيا موانئها، والبلاد تنفد منها مستلزماتها الطبية من الأوكسجين والمستلزمات الطبية الأخرى.
وتلك أخبار شديدة السوء بالنسبة لأوكرانيا، وكذلك تعد أخباراً سيئة للغاية للمواطنين الروس العاديين، حتى وإن كانت حكومتهم هي من تتحمل اللوم بكل تأكيد، لكنها أيضاً أخبار مفزعة لصناعة الشحن العالمية بصفة عامة.
وتمتلئ صفحات المياه بمحيطات العالم الآن بالسفن التي خرجت في رحلاتها، وتواجه حالة اضطراب وفوضى، والسبب أنها لم يعد مسموحاً لها أن ترسو في موانئ محددة، ولا تستطيع تسليم الشحنات الموجودة على متنها، ولا تستطيع تحميل الشحنات التي يتوقع العملاء الآخرون وصولها.
الحرب في أوكرانيا كارثة أخرى للبحارة
يجب أن تُعاد الشحنات الموجودة على متن هذه السفن، ولكن من سيفعل ذلك؟ تعمل شركات الشحن اعتماداً على هامش ربح صغير، وبدلاً من ذلك تجني المال من خلال الحجم الضخم من البضائع والسلع التي تنقلها (قبل غزو أوكرانيا، كانت شركات الشحن تسلم سنوياً في المتوسط 1.5 طن من السلع والبضائع لكل إنسان على وجه الكوكب). ولا تملك الموانئ مساحةً لتخزين كمية هائلة من البضائع على نحو مفاجئ، والكثير من هذه البضائع قد يكون قابلاً للتلف.
ثمة مشكلة أكثر إلحاحاً تتمثل في أطقم هذه السفن، التي تبقى وجهاتهم حتى هذه اللحظة معلقةً ومجهولة. قال جاي بلاتين، الأمين العام لغرفة الملاحة الدولية: “بسبب هذه الأزمة الجديدة نضطر إلى إعادة البحارة إلى أوطانهم، ولكن إلى أين نعيدهم؟ بعضهم لا يريد العودة إلى بلده، على سبيل المثال إذا كنت أوكرانيّاً فإن العودة إلى الوطن تعني أنك لن تستطيع المغادرة، وبعض البحارة متخوفون من ذلك”.
تضرب هذه الأزمة فيالق البحارة حول العالم، وهم الذين عانوا بشدة بسبب جائحة كوفيد-19. عندما ضربت الجائحة العالم عجز كثير من البحارة عن العودة إلى البلاد بعد أن انتهت عقودهم، وذلك بسبب توقف الرحلات الجوية. وبعد ذلك ظلت الأمور تسوء عندما أعلنت البلاد حول العالم بأن البحارة ممنوعون من مغادرة سفنهم بينما ترسو في الموانئ. صار البحارة أسرى سفنهم، وبمجرد أن انخفضت أعداد الإصابات بكوفيد-19 واجهوا نفس المأساة مرة أخرى.
وفي غضون ذلك، لا يقتصر الأمر على حالة عدم اليقين التي يواجهها هؤلاء البحارة على صعيد ما إذا كان سيكون هناك عمل كاف لبقاء مصدر رزقهم، هم والبحارة الآخرون، بل يمتد إلى احتمالية عدم دفع رواتبهم نظراً إلى أن روسيا تخضع لعقوبات هائلة.
قال بلاتين متسائلاً: “يوجد كثيرون من أعضاء أطقم السفن الروسية ليسوا روسيين. كيف ندفع لهم، مع الوضع في الحسبان أنهم يُدفع لهم من شركات خارج روسيا؟” ولا يزال يحاول العثور على إجابة عن هذا السؤال. أضاف بلاتين: “تعد صناعة الشحن مترابطةً بطريقة لا تشبه أي صناعة أخرى”.
يأتي أكثر من 10% من بحارة العالم، البالغ عددهم 1.89 مليون شخص، من روسيا، فيما يأتي 4% منهم من أوكرانيا. وثمة اعتقاد بأن الكرملين إذا أراد جعل العلاقة مع الغرب في منطقة رمادية بين الحرب والسلم، فيمكنه أن يجبر بحارته على البقاء في الوطن. وحتى الآن، تستطيع روسيا أن تطلب من البحارة الروس ألا يعودوا إلى ركوب البحار بعد العودة إلى البلاد. ومن ثم سوف يواجه الشحن العالمي، وسلاسل إمدادات السلع والبضائع بالتبعية، انهياراً آنياً.
في الوقت الراهن، يبدو أن الرئيس بوتين يصب تركيزه على العنف العسكري، وليس على وسائل العدوان الأكثر دقة. وبالنسبة للبحارة يعني هذا مشكلة ملحة أخرى. تعْلق حوالي 140 سفينة شحن في موانئ أوكرانيا المغلقة، ولا تستطيع المغادرة نظراً إلى أن الإبحار عبر البحر الأسود يتضمن خطراً كبيراً. في 3 مارس/آذار، غرقت سفينة شحن إستونية تحمل طاقماً مكوناً من 6 أشخاص -والصدفة أن اثنين منهم من أوكرانيا و4 منهم روس- قبالة ميناء أوديسا.
مصائب الشحن البحري لا تأتي فرادى
أُصيبت 3 سفن تجارية أخرى في البحر الأسود بعد تعرضها لقصف بصواريخ روسية، وتسببت إحدى الهجمات في قتل أحد أعضاء طاقمها، وكان يحمل الجنسية البنغلاديشية. قال بلاتين: “إننا نحاول مساعدة أطقم السفن على مغادرة الموانئ. إننا نستخدم كافة الوسائل الدبلوماسية، ولكن في اللحظة الراهنة يبدو ذلك شبه مستحيل. نحاول كذلك أن نجلب الطعام لهم”. إذ إن أعضاء أطقم السفن لا يستطيعون مغادرة السفن المكلفين بإدارتها. وعادة لا تحمل سفن الشحن إلا طعاماً يكفي لأسبوعين، ولذا فإن الموقف رهيب، لدرجة أن المنظمة البحرية الدولية سوف تعقد جلسة طارئة هذا الأسبوع.
وحتى إذا نجح تضافر جهود شركات الشحن والبحارة والجمعيات الخيرية والدبلوماسيين، وعاد جميع البحارة العالقين إلى أوطانهم بسلام، فسوف تواجه صناعة الشحن اضطراباً مستمراً، لأن العالم منقسم إلى منطقتين: إحداهما سوف تواصل نشاطها مثلما هو الحال سابقاً وتعبر الحدود ولا تواجه إلا عقبات قليلة. والأخرى -وهي روسيا وأوكرانيا وبلاد أخرى محتملة- صارت مبتورة، برغم أن الاحتياجات اليومية لمواطنيها لا تزال مثل احتياجات مواطني وشركات المنطقة الأخرى.
وحتى قبل بدء الهجوم الروسي في الشهر الماضي، كان يتضح أن الدرجة القصوى الحالية للعولمة لم تعد مستدامة. فالشركات لا تستطيع مواصلة العمل كما لو أن الحدود غير موجودة، في وقت تقف فيه بلاد متأهبة على نحو متزايد لقتال بلاد أخرى. وجهت روسيا ضربة شديدة إلى العولمة، وتجلياتها الأولية المتمثلة في الشحن العالمي.
ولكن حتى في هذا الموقف المظلم، ثمة جانب إنساني في دوائر مفاجئة للغاية. إحدى شركات الشحن الكبيرة، التي تملك حوالي 400 سفينة، توظف في الأساس بحارة روسيين وأوكرانيين. قد يظن المرء الآن أن السكاكين ستخرج ويقتل بعضهم بعضاً. قال بلاتين: “ليس هناك أي مشكلة على متن السفن”.