آخر الاخباراقرأ لهؤلاء

د. عبدالعزيز رجب يكتب: وقفات ما بعد الحج

استمع إلى المقال بواسطة الذكاء الاصطناعي

بقلم الدكتور عبدالعزيز رجب

عند النظر في مواسم الطاعات والعبادات، نجد أنها اختتمت بالأعياد. فعيد الفطر مرتبط بشهر رمضان وفريضة الصيام، وعيد الأضحى مرتبط بفريضة الحج، وكان ختام عشر ذي الحجة. وربما في ذلك إشارة إلى أن كل يوم يقطعه الإنسان في طاعة الله جل وعلا، وذكره، وشكره، وحسن عبادته، هو يوم عيد.

الوقفة الأولى: إلى الحجاج:
يا مَن حجَجتم البيتَ العتيق، وجئتُم من كلِّ فجٍّ عميق، ولبّيتم من كلِّ طرف سَحيق، يا من أديتم الفرض، ولبيتم النداء بالحج، استجابة لقول الله جل وعلا (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [ آل عمران: 9]

إليكم هذه الوصايا:
1- الحمد لله على إتمام هذه الفريضة المباركة {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
2- فليكن الحج نقطة تحول وتغير في حياتنا {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
3- داوموا على طاعة الله، فتلك وصية من وصاياه جل في علاه، فقال تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99] ، ومن أحب الأعمال إلى الله كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : «أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ». (رواه البخاري)
4- كم رفعت يديك داعيًا ربك وخالقك في تلك الأيام الجميلة! فلا تنقطع؛ فـ”الدعاء هو العبادة”.
5- عدت محسنًا الظن بربك، وقد خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فلا تطفئ نور قلبك بوحل الذنوب.
6- لعلك عاهدت ربك وخالقك على التوبة، فحذاري من النكوص {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
7- عليك بالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة: فللحجِّ المبرور أمارة، ولقبوله منارة، سئل الحسنُ البصريّ – رحمه الله تعالى -: ما الحجّ المبرور؟ فقال: “أن تعودَ زاهدًا في الدّنيا، راغبًا في الآخرة”( الجامع لأحكام القرآن للقرطبي).

ثانيًا: مدرسة الحج:
1- أثر الحج في تهذيب السلوك والأخلاق:
يُغرس الحج أسمى المعاني الأخلاقية في نفوس الحجاج والمعتمرين من خلال قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة/197]،
إن العبادات لا يمكن أن تؤتي ثمارها المرجوة إلا إذا ظهر أثرها في سلوك المرء وأخلاقه وتعامله مع الآخرين، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، ومن لم ينهه حجه وصومه عن اللغو والرفث والفسوق فما انتفع بحج ولا بصيام..وهكذا
العبادة هي علاقة شخصية بين الفرد وربه، بينما السلوك هو علاقة بين الفرد والمجتمع. ومن الضروري أن تنعكس العلاقة الإيجابية بين الفرد وربه على علاقاته مع أفراد المجتمع، مما يؤدي إلى تحسينها وتطويرها.

2- وحدة الأمة التي تتجلى في الحج من خلال:

  • وحدة الوجهة والمقصد: حيث يتوجه الحجاج من جميع أنحاء العالم إلى مكان واحد، وهو بلاد الحرمين، بقصد واحد، وهو رضا الله تعالى ومغفرة الذنوب والفوز بالجنة. وقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه).
  • وحدة المظهر والمخبر:
    في المظهر، يرتدي الحجاج ثيابًا موحدة، لونها أبيض، لا خيط فيها، ولا اختلاف، وإنما هي الوحدة الكاملة ظاهريًا، رداء وإزار؛ حيث يتخلى الجميع عن ثوبه ولباسه الاعتيادي ليتحد المسلمون في مظهرهم أمام ربهم الجليل العظيم.
    أما وحدة المخبر فالرغبة في أداء فريضة الحج؛ طلبًا لرضا الله والجنة، والدخول في هذه الحالة من التجرد عن متاع الدنيا، والانفكاك عن كل ما سوى الله تعالى.
  • وحدة المكان والزمان:
    فأما وحدة الزمان فقد قال الله تعالى عنها: (لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ) [سورة البقرة: 197].
    أما وحدة المكان فشعائر الحج تؤدى في أماكن معلومة، ابتداءً من مواقيت الإحرام، ومروراً بأماكن أداء الشعائر حيث يوم التروية، ويوم عرفة، والإفاضة من عرفة إلى طواف الإفاضة ورمي الجمرات، وانتهاءً بطواف الوداع.
  • وحدة الشعائر والمشاعر:
    فالشعائر واحدة متوحدة، لا زيادة فيها ولا نقصان، وأما المشاعر فالأصل أن المسلم يخرج بهذه المشاعر الفياضة، وهذا الشوق الحادي إلى الأراضي المقدسة المفعم بالأمل في رحمة الله، والرجاء في مغفرة، والطمع في جنته ورضوانه، فيتحد المسلمون في شعائرهم ومشاعرهم، وهذا أقصى ما يمكن أن تصل إليه أمة في وحدتها.
  • وحدة النتائج والآثار:
    النتيجة هي مغفرة الذنوب إذا أدى المؤمن هذه الفريضة كما ينبغي، وأما الآثار فهي حصول الاستقامة لمن حج بهذه الروح وبهذه الكيفية. فلنحرص على هذه الوحدة، ودعمها وتكبيرها على مدار العام.

3- التضامن والتعاون:
فالحج هو مؤتمر إسلامي سنوي ينعقد بدعوة إلهية، وتلتقي فيه وفود الأمم الإسلامية وممثلوها، في أطهر مكان بنفوس صافية مؤيدين بمعونة الله؛ ليرسموا خطة تعاون المسلمين، ويقرروا ما يحقق آمالهم، ويعالج أمراضهم، ويوحد كلمتهم. ولو عُني المسلمون بهذا المؤتمر الإلهي السنوي ليستفيدوا من تجارب بعضهم البعض، وليتحدثوا بمشاكلهم السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في كل مجالات الحياة. وقد بين الله تبارك وتعالى أننا خلقنا للمودة والتعارف فقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: آية 13).

ثالثًا: لمن لم يحج: أعمال لها أجر الحج:
وإذا كان موسم الحج هذا العام قد انتهى؛ فإن فضل الله دائم لا ينقطع وإن جوده لا ينتهي؛ إذ وهبنا من الأعمال ما نصل بها إلى أجر حج النافلة، وليس هذا الأجر مرة كل عام؛ بل مرات كل يوم؛

ومن هذه الأعمال:
1- النية الصادقة للحج؛ ففي الحديث النبوي “إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: … وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ”.
2- التطهر في البيت ثم الخروج إلى أداء الصلاة المكتوبة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا، إِلَى صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ؛ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ”. (أخرجه: أحمد)
3- صلاة الضحى؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لاَ يُنْصِبُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ؛ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ”. ويقول صلى الله عليه وسلم “مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ”. (رواه الترمذي)
4- الخروج إلى المسجد لتعلم العلم أو تعليمه، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُرِيدُ إِلا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حَجَّتهُ ” رواه الطبراني في الكبير)
5- شهود الجمعة فعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه ” هو أحب إلي من حجة نافلة “
6- بر الوالدين ؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ” إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ ، وَإِنِّي لا أَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَالِدَيْكَ ؟ قَالَ : أُمِّي ، قَالَ : فَاتَّقِ اللَّهَ فِيهَا ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ ، وَمُجَاهِدٌ ” شعب الإيمان للبيهقي)
7- قضاء حوائج الناس ؛ فعن مالك بن دينار رحمه الله: بعث الحسن البصري محمد بن نوح، وحميدًا الطويل في حاجة لأخٍ له، وقال : مروا بثابت ألبناني، فأشْخِصانه (أي: فليذهب) معكم، فأْتِيَا ثابتًا، فقال لهم ثابت: إني معتكف، فرجع حميد إلى الحسن، فأخبره بالذي قال ثابت، فقال له: ارجعْ إليه، فقل له: يا أعمش، أما تعلم أنَّ مشيك في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك مِن حجة بعد حجة، فقام وذهب معهم، وترك الاعتكاف( البر والصلة لابن الجوزي)،

زر الذهاب إلى الأعلى