د. عبدالعزيز رجب يكتب: متى يتعلم هذا المجتمع قيمة الصِّدقُ وأضرار الكذب؟
للصدق قيمة عظمى وفضيلة كبرى، وله أثر كبير على الفرد والأسرة والمجتمع، فالصدق يتصدَّر مكارم الأخلاق، قال تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا الله وكُونُوا معَ الصَّادِقين﴾ [التوبة: 119] والصدق له أثر كبير في حياة الفرد والمجتمع، فهو أعظم زينة يتزين بها المرء في حياته بعد الإيمان هي زينة الصدق، فالصدق أساس الإيمان كما إن الكذب أساس النفاق،فلا يجتمع كذب وإيمان إلا ويخرج أحدهما الآخر. .
والصدق بمعناه الضيق مطابقة منطوق اللسان للحقيقة، وبمعناه الأعم مطابقة الظاهر للباطن، فالصادق مع الله ومع الناس ظاهره كباطنه، ولذلك ذُكر المنافق في الصورة المقابلة للصادق، قال تعالى :﴿ لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[الأحزاب24]. والمتأمل لأخلاق الإسلام يرى بينها تناغما عجيبا لا تدركه إلا القلوب المبصرة والعقول المتدبرة .
. يقول الحارث المحاسبي : ” واعلم – رحمك الله – أن الصدق والإخلاص : أصل كل حال، فمن الصدق يتشعب الصبر، والقناعة، والزهد، والرضا، والأنس، وعن الإخلاص يتشعب اليقين، والخوف، والمحبة، والإجلال والحياء، والتعظيم، فالصدق في ثلاثة أشياء لا تتم إلا به : صدق القلب بالإيمان تحقيقـًا، وصدق النية في الأعمال، وصدق اللفظ في الكلام ” فالمؤمن لا يكون إلا صادقا ولا يصح أن يكون كاذبا والمؤمن الحق لا يكذب أبدًا، عن صفوان بن سليم – رضي الله عنه – قال: قيل: يا رسول الله: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: «نعم» قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: «نعم» قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: «لا» ( رواه مالك مرسلا) وعن ابن مسعودٍ – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلَّم – قال: «إنَّ الصِّدقَ يَهْدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّة، وإنَّ الرَّجُل ليَصدُقُ حتَّى يُكتبَ عند الله صِدِّيقاً، »[ متّفق عليه].
ويقول إبراهيم اليازجي: “الصِّدق عَمود الدِّين، ورُكن الأدَب، وأصلُ المروءة”[موسوعة روائع الحكمة: ص 389]. والصدق من صفات الأنبياء – عليهم السلام -، فكان من صفات النبي – صلى الله عليه وسلم- ” الصادق الأمين”، وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾ [مريم: 41] وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾ [مريم: 56]. وسأل سيدنا إبراهيم ربه ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84] وأصحاب الجنة هم أهل الصدق: فقال تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾[ البقرة: 177] .
والصدق ينفع صاحبه يوم القيامة قال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة. 119] والصدق طمأنينة وثبات ونجاة في الدنيا والآخرة، كما جاء في الأثر -: «تحروا الصدق وإن رأيتم أن فيه الهَلَكَة، فإن فيه النجاة» [ ابن أبي الدنيا:ص.397] وفي قصة توبة كعب بن مالك – رضي الله عنه- أثر الصدق في نجاته، يقول كعب: بعد أن نزلت توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا : ” يا رسول الله إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقـًا ما بقيت “، ويقول كذلك : ” فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا … “(رواه البخاري)
الترهيب من الكذب : وإذا كان الصدق جماع كل خير، فإن الكذب جماع كل شر وأصل كل ذم لسوء عواقبه وخبث نتائجه، فالكذب هو رأس الخطايا وبدايتها، وهو من أقصر الطرق إلى النار، كما وعن ابن مسعودٍ – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلَّم – قال: « وإنَّ الكَذِبَ يَهْدي إلى الفُجُور، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدي إلى النَّار، وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللهِ كَذَّاباً»[ متّفق عليه]. والكاذب بعيد عن الهداية، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾[غافر :28] من صفات النفاق، كما روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلَّم – قال: «آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»( رواه مسلم). والكذب صفة من صفات الجاحدين الملحدين المعرضين عن آيات الله المكذبين بها، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 105].
أنواع الكذب:
للكذب أشكال عديدة، ومظاهر كثيرة، منها:
1- الكذِب على الله تعالى؛ يقول الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾. [الأنعام:21]، وقال تعالى: ﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].
2- الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والأنبياء؛ ومن كذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد ارتكب ذنبا عظيما، فعن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه- قال: سمعت النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم- يقول: «إنّ كذبا عليّ ليس ككذِب على أحَد. مَن كذبَ عليّ متعمّدا فليتبوّأ مَقعده من النّار».(متفق عليه).
3- الكذب على العباد؛ حتى ولو كان الكذب لإضحاك الناس: فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده – رضي الله عنهم – قال: سمعت النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – يقول: «ويل للّذي يُحدّث بالحديث ليُضحِك به القوم فيكذب، ويل له ويل له» رواه أحمد . وعن أبي أمامة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحِقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه». أخرجه أبو داو أو يكون الكذب في البيع والشراء، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – قال: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطِيَ بها أكثرَ ممّا أعطِيَ وهو كاذِب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل مائه. فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمَلْ يداك». (أخرجه البخاري). أو شهادة الزور، فعن أبي بكرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر»؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وكان متكئا فجلس، فقال: «ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور» فما زال يقولها، حتى قلت: لا يسكت. وفي رواية: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت”. ( متفق عليه)
و الكذب لإفساد ذات البين: عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن شرّ الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه». متفق عليه. أو الكذب في نقل الأخبار وإشاعتها: فعن أبي هريرة- رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : «كفى بالمرء كذبا أن يُحَدِّث بكلِّ ما يسمع». (رواه مسلم). من مجالات الصدق: 1ـ الصدق في النية: المسلم لا بد أن يجدد في نيته قبل العمل وأن يصدق في نيته فلا ينوي بذلك إلا وجه الله تعالى فإن كان العمل لله أمضاه وإلا استغفر وصدق في نيته، وقال تعالى في وصف المنافقين ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾[الفتح: ١١] 2ـ الصدق في الأقوال :يقول الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 70، 71] 3ـ الصدق في المعاملات:يقول الله عز وجل : ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين ﴾[التوبة : 119] ، وعن أبي خالد حكيم بن حزام – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلَّم – قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما».(متفق عليه). 4ـ الصدق في أداء الأمانة :يقول الله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾[النساء: ٥٨] كيف أَصْدُق وأعالج الكذب؟ وذلك بأن يقتدى بالنبي – صلى الله عليه وسلم- فكان يلقب بالصادق الأمين، وغرس قيمة الصدق في الصغار، وترك فضول الكلام، وتحريم الغيبة والنميمة، ومراقبة الله عزوجل، وتعويد النفس على الصدق، وتوطينها عليه، والنظر في الكذب وعدم الصدق، ومصاحبة الصادقين، ومجانبة الكاذبين، تكن من الصادقين الفائزين في الدنيا والآخرة.