أبو عمر القروي يكتب: مقامات رمضانية .. مداسات الناس قديما وقيم عصر القباقيب
بوابة الاقتصاد
مقامات رمضانية ( ٥ )
** مداسات الناس قديما ، و قيم عصر القباقيب
* ظاهرة غريبة كانت منتشرة في الريف قديما ، و هي أن كثيرا من الفلاحين يمشون حفاة بدون أحذية ، حتى بعد وجود الأحذية ، و بعض الناس كان يضع الحذاء تحت إبطه ، و يمشي حافيا ، و هي ظاهرة تدعو للدهشة ، و كان المشروع القومي لمصر في فترة الأربعينات هو ( مقاومة الحفاء ) ، و تمت دعوة الأثرياء للتبرع لحل هذه المشكلة في أثتاء حكم الملك فاروق … و سألت نفسي عن أي شيء تطور هذا الحفاء ؟
* و أنا أعرف أن بداية الخلق كان الإنسان حافيا ، أما أن يكون ذلك في القرن العشرين فكان غريبا ، و الغرابة أن بعض التلاميذ كانوا يلبسون القباقيب ، و هم ذاهبون إلى المدرسة ( و القبقاب هو مداس خشبي بسير جلد من الأمام ) ، و كان التلاميذ يحسون بضجر شديد أثناء دخول الفصول و المشي على البلاط ، فأصوات القباقيب كصوت الدبابات ، أو كأننا داخلون معركة حربية ، و آه لو حدثت مشادة بين بعض التلاميذ ، فلا تنتهي في الغالب إلا بعد إسالة الدماء ، و كان بعض التلاميذ عندهم الجرأة في الضرب بالقبقاب ، و لهذا كان الجميع يعمل لهم ألف حساب ، أما جيلنا فقد عايش القباقيب في أواخرها ، و بعد أن انحسرت في دورات مياه المساجد .
* و برغم هذا كانت هناك رياح تغيير تهب على المجتمع المصري ، و بالذات الريف ، البيئة الحاضنة لثورة يوليو ٥٢ ، ،كما أن الثورة قامت بجهد كبير لتغيير الواقع المصري ، ظهر في قيام عبد الناصر بتأميم شركة ( باتا ) عام ١٩٦١ ؛ حيث تم ضم الشركة بنفس الاسم التجارى ( باتا ) ، رغم فصلها التام عن الشركة الأم ، إلى الشركة القابضة للصناعات الكيماوية ، و تم تعيين اللواء عبد العزيز فتحي ، رئيسا لمجلس إدارتها ، و تم تصنيع حذاء بلونين ( أبيض و طوبي ) ، بتكلفة عشرة قروش ، لتكون في متناول الجميع ؛ للقضاء على هذه الظاهرة تماما ، و تم تاميم العديد من الشركات ؛ كعمر أفندي و صيدناوي و بنزايون ، هذه الشركات كانت الدولة تتحكم في أسعار منتجاتها ، فكانت أسعارها رخيصة و منتجاتها متينة ، و كانت الناس ترى تباشير هذا التغيير على لباس و أحذية المدرسات و المدرسين القادمين من المدينة ، فرق شاسع بين ما كان يلبسه هؤلاء ، و ما يلبسه أهل القرى ، المهم أن تغييرا موازيا كان يحدث في المجتمع المصري ، و في القرى ببطء .
* ظلت ( البلغة ) ، بفتح الباء ، أو بضمها حسب لهجات القرى ، هي مداس الكثير من الفلاحين في فصل الصيف ، حيث كانت تتماشى مع الجلابية الفلاحي و الطاقية ، و كانت تمثل جزءا من هوية أبناء الريف التي اندثرت الآن ، و البعض كان يلبس أحذية جلدية تسربت مع القادمين من المدينة ، و كذلك لبسها أبناء المدارس من البنين و البنات ، و قيل إن لفظ ( البلغة ) ورد في خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في سياق تهديده لأمريكا ، و ظنت الإدارة الأمريكية ساعتها أن ( البلغة ) ، سلاح جديد ، و خطير !!
* تطور المداس في الريف إلى صنع أحذية من البلاستيك ، كان الفلاحون يطلقون عليها ( الطالونا ) ، و كانت رخيصة الثمن ، و لهذا انتشرت بسرعة بين الفلاحين ، و كانت لها ميزة كبرى في فصل الشتاء ؛ حيث كانت صالحة للمشي في الوحل ، و تغسل و لا تؤثر عليها المياه .
* و قامت على هذه الأحذية مهنة جديدة و هي لحام الأحذية البلاستيك ، و كان صاحب هذه المهنة يجوب القرى ، و ليس معه إلا وابور جاز و سكينة و مبرد و قطع بلاستيك قديمة يصلح بها القطع الذي كان يصيب هذه الأحذية ، و هذه المهنة كانت ضعيفة لا تدر شيئا يذكر ، لأن كل فلاح كان عنده القدرة على إصلاح حذائه .
* بعض الناس كانوا يلبسون ما يسمى ب ( الحدوة ) في قدميه ، و هي قطعة من الجلد يصنعها الإسكافي من إطارات السيارات ، و كان الفلاحون يلبسونها عند الذهاب للحقول و داخل البلد ، و الطريف أن بعض الفلاحين و الحفاة كانوا يرفضون ارتداء الحذاء ، و يفضلون السير عراة الأقدام ، باعتبار أن الطين قد كوًن طبقة سميكة على الجلد ، هي عندهم أفضل من الحذاء ، و من وافق منهم على ارتداء الحذاء ، فقد كان يضعه تحت إبطه في القريه خوفا عليه من التراب و الاتساخ ، و جزء آخر من الفلاحين كان يرفض لبس الحذاء جديدا حتى لا يتهم بالثراء ، فكان لا يرتديه إلا مستعملا .
* و بعد الاتصال بالمدينة و اكتشافها و إمكانية الذهاب إليها ، حتى على ظهور الحمير ، وجد الناس عددا كبيرا من الفلاحين يدمنون الأحذية المستعملة ، حيث كانت لها باعة يفترشون الأرض في الشوارع ، و يضعونها في ( خورج ) عند الذهاب و الإياب ، و كانت هذه الأحذية في مجملها بحالة جيدة ، استعمال مدينة ، و البائع كان يدهنها و يلمعها جيدا حتى تظهر بمظهر جيد ، و لكن لو تعرف ما ينتظرها من شقاء و أيام سوداء بعد أن يشتريها الفلاحون لدبت فيها الروح و توارت ، أو لتمنت أن تنتهي و تدفن في المدينة ، أو لو كانت هذه الأحذية تعقل و هي تسمع النقاش الحاد بين البائع و هذا الفلاح الماكر ، الذي يريد أن يشتريها بلا شيء ، و تطول المساومة (و يطلع فيها القطط الفطسانة ) ، كما يقول الريفيون ، و تتم البيعة بعدم رضا من الطرفين ، و يأخذها الفلاح في كيس فليس لها علبة ، فعلبتها عند المشتري الأول ، و هو لا يدري عدد الأرجل التي ركبتها قبله ؛ و لكنها في النهاية حذاء جديد ، فقديمك جديد غيرك .
* و البعض كان يأتي بالبيادة الميري و يذهب للإسكافي فيقصها و يجعل منها حذاء متينا يستعصي على عوادي الزمن .
* و انتشرت بين أبناء المدارس الأحذية ( الكريب ) ، و هي أحذية متينة للغاية ، نعلها من الكريب و الجلد متين ، حذاء كان يعيش فترة طويلة ، حتى إن بعض الفلاحين كان يأتي به لابنه و يزيد في المقاس حتى يكفي لمرحلة تعليمية كاملة ، الإعدادية بحذاء واحد ، و الثانوية بحذاء واحد، وفي النهاية بعضهم كان يأخذ النعل يصنعه شبشبا من البلاستيك ، و الجميل في الريف أن مستويات المعيشة كانت متقاربة فلا تمايز بين الناس إلا ما ندر .
* اليوم تجد عددا كبيرا من الأحذية و الشباشب و الكوتشات أمام أبواب الشقق ، تكاد لا تمكِّن الداخل من الدخول ، و تتناثر على درجات السلم ، و أصبحت مشكلتنا في اختيار ماذا نلبس ، بعدما كانت مشكلتنا في الماضي أن نجد ما نلبسه .
* و في النهاية أنا لا أدعو للعودة للبس القباقيب ، و لكن أتمنى أن نعود لقيم عصر القباقيب و اقتصاد عصر القباقيب ؛ حيث كان الفلاح عنده اكتفاء ذاتي في كل شيء و لا يحتاج لشيء ، أقل الأشياء كانت تكفيه و لهذا عاش سعيدا ، و برغم هذا كان يحلم لتغيير واقعه ، هذا الحلم الذي فقدناه في هذه الأيام .
كل التفاعلات:
١٥١٥