ماذا بعد “الصدمة الأولى” لرفع الفائدة الأمريكية في الأسواق الناشئة؟
بوابة الاقتصاد
أتى رفع سعر الفائدة الأمريكي قبل أسبوع ليثير ردود فعل واسعة في الاقتصاد العالمي، بسبب تأثير الولايات المتحدة الكبير في معادلة الاستثمار العالمي بشكل عام، وبسبب حالة عدم اليقين المتزايدة التي يشهدها العالم في الآونة الأخيرة بشكل خاص.
ولعل أحد أكثر ردود الفعل المنطقية جاءت من جانب الدول النامية والأسواق الناشئة، التي أقدمت غالبيتها على رفع سعر الفائدة في بنوكها المركزية، كما انخفضت أسعار صرف العديد من عملات تلك الدول في مواجهة الدولار، وذلك خوفا من انسحاب الاستثمارات لتتوجه إلى الولايات المتحدة التي ستتجه لمزيد من الرفع لسعر الفائدة في المدى المنظور وفقا لتوقعات غالبية المحللين.
رد فعل مختلف نسبيًّا
ففي أحدث 5 مرات تم رفع الفائدة الأمريكية فيها (قبل هذه المرة في مارس الحالي)، اعتادت الأسواق الناشئة تسجيل أداء أسوأ في الاثني عشر شهرًا اللاحقة على الرفع مقارنة بأداء الاثني عشر شهرا السابقة للرفع، بنسبة تراجع وصلت إلى 10% في بعض المرات (مثل ما قبل وما بعد رفع الفائدة عام 2016).
والشاهد أن رد الفعل جاء مختلفًا بعض الشيء هذه المرة، فعلى الرغم من أن رفع أسعار الفائدة الأمريكية يصاحبه انهيارات غالبا في أسواق الدول الناشئة للأسهم كما أسلفنا، فإن مؤشر “مورجان ستانلي” للأسواق الناشئة ارتفع بنسبة 6.55% خلال الأسبوع المنصرم أو أسبوع رفع الفائدة الأمريكية.
وتفاوتت الارتفاعات والانخفاضات بطبيعة الحال إلا أن “انهيارات الماضي” في أسواق الأسهم لم تحدث هذه المرة، بل ارتفع المؤشر بنسبة 6% في يوم الجمعة الماضية وحده بما يعكس تفاؤلاً نسبيًّا للمستثمرين بالإقبال على الشراء في نهاية أسبوع التداول (في غالبية الدول).
ويمكن القول إن هذا الاختلاف النسبي “المفاجئ” له العديد من الأسباب منها أن رفع سعر الفائدة الأمريكية هذه المرة كان متوقعًا للغاية، بل ويكاد يكون “معلنًا عنه مسبقا” بما جعل تأثيراته سابقة بكثير على الأسبوع الماضي أو الحالي فحسب.
انسحابات لرؤوس الأموال
وفي بداية شهر مارس الحالي، أي قبل إعلان رفع سعر الفائدة بأسبوعين كاملين، تعددت التقارير الإخبارية حول عمليات سحب أموال بالمليارات من أسواق الدول النامية والناشئة تحسبًا لرفع سعر الفائدة الأمريكية، ومنها سحب أكثر من 10 مليارات دولار في يوم واحد من الفلبين على سبيل المثال، ومليارات مماثلة من دول مثل تركيا والبرازيل وإندونيسيا، بما يؤكد “تحوط” استثمارات لرفع الفائدة قبلها بفترة.
ولعل أسعار الفائدة المرتفعة في الدول الناشئة، مثل مصر بـ9.25% وكذلك 11% في البرازيل و14% في تركيا وعلى “القمة” تأتي الأرجنتين بـ42.5%، جعلت استقرار بعض رؤوس الأموال (والأموال الساخنة) في تلك الدول مفهوما في ظل عائد كبير دون مخاطرات استثمار (وإن بقيت مخاطرات الاستقرار الاقتصادي بطبيعة الحال).
إلا أن لذلك مخاطره في النهاية، فالأموال التي تبقى بسبب سعر الصرف المتدني أو سعر الفائدة المرتفع هي بطبيعة الحال غير مستقرة أو “ساخنة”، بما يجعل الإبقاء عليها باستمرار مكلفا، سواء برفع الفائدة وعرقلة خطط المستثمرين الجديين، أو بتخفيض قيمة العملة وزيادة الضغوط التضخمية في الدولة.
فالأسواق الناشئة تواجه ارتفاعًا في معدلات التضخم والدين العام بشكل كبير، حيث ارتفع متوسط إجمالي الدين الحكومي في الأسواق الناشئة بنحو 10 نقاط مئوية منذ عام 2019 ليصل إلى ما يقدر بنحو 64٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2021 ، مع وجود اختلافات كبيرة بين البلدان.
أزمات مركبة
ويرى “كريستوف باور” الخبير الاقتصادي في شركة “ماركت سيكيورتيز” للاستثمارات أن الأزمة التي تواجه الدول النامية هي في اضطرارها لاتخاذ إجراءات متعارضة من خلال تخفيض سعر الصرف، مما يزيد الضغوط التضخمية لدول تستورد الكثير من احتياجاتها، لكنه -أي تخفيض سعر الصرف- يدفع للرواج على الجانب الآخر.
وفي المقابل تقوم تلك الدول برفع سعر الفائدة لامتصاص تلك الضغوط التضخمية بسحب السيولة من الأسواق، بما يدفع في اتجاه للركود، لتثار حالة من عدم اليقين والاستقرار في أسواق تلك الدول على الرغم من أن بعض تلك الإجراءات يبدو “ضروريا” لاعتبارات اجتماعية.
وتزيد الأزمة الأوكرانية الحالية من تعقيد موقف الأسواق الناشئة والنامية، حيث حذر البنك الدولي وصندوق النقد والبنك الأوروبي للتنمية من أن الأزمة الأوكرانية ستطال أضرارها الأسواق المالية في الدول النامية، حيث سينعكس غموض الآفاق على أسعار الأصول، وسيتسبب بتشديد الشروط المالية، وقد يؤدي حتى إلى “تدفق رؤوس الأموال خارج الأسواق الناشئة”.
كما أن ضغوطًا تضخمية “مستوردة” جديدة مع قرارات أوروبية تم تفعيلها بالفعل وأخرى متوقعة بتقديم دعم في ملفات الطاقة والأمن الغذائي للمواطنين الأوروبيين، بما سيعني المزيد من ارتفاع الأسعار في ظل قدرات شرائية غير متوازنة بين أوروبا والدول النامية بطبيعة الحال.
ويبدو من كل ما سبق أن الأسواق الناشئة امتصت “الصدمة الأولى” رغم ما أصيبت به من أضرار كبيرة فيما يتعلق بارتفاع نسب التضخم (يتوقع أن يكون فوق 60% في تركيا خلال هذا العام مثلا)، ولكن يبقى السؤال عن مدى قدرتها على امتصاص الصدمات التالية مع الاستمرار المتوقع لرفع الفائدة الأمريكية لتصل إلى مستوى 1.75%.
المصادر: أرقام- وول ستريت جورنال- تقرير لصندوق النقد الدولي- وكالة الأنباء الفرنسية