مكاسب الإمارات من استثمارها 35 مليار دولار في رأس الحكمة؟
مشروع رأس الحكمة هو المحور الرئيسي للصفقة لكن الاستثمار يعكس أيضاً أهدافاً استراتيجية لدى أبوظبي
في يوم شتوي صافٍ هذا العام، شاهد سكان راس الحكمة طائرة تحلق في السماء. قيل لهم إن مسؤولين إماراتيين كباراً كانوا على متنها وهم مهتمون بشكل خاص بواحدة من آخر المناطق الطبيعية غير المستغلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
بعد أسابيع، في 23 فبراير، أعلن رئيس الوزراء المصري بحضور وزير الاستثمار الإماراتي عن صفقة بقيمة 35 مليار دولار تتضمن تحويل الموقع ذاته إلى وجهة جديدة للسياحة العالمية. ومن المحتمل أن يكون هذا المبلغ، الذي وُصف بأنه أكبر استثمار أجنبي في تاريخ مصر، قد أنقذ اقتصاد البلاد، وساهم بتجنب حدوث أزمة كبيرة أخرى في الشرق الأوسط.
نفوذ جيوستراتيجي
تكشف المداولات التي قامت بها الامارات العربية المتحدة قبل اتخاذ قرار الاستثمار كيف تستخدم الدولة الخليجية مواردها المالية الضخمة لجني المكاسب بموازاة بناء نفوذها السياسي، وفق ما أفاد به أكثر من عشرة دبلوماسيين ومسؤولين مطلعين. فمن خلال تخصيص مبلغ يعادل 7% من ناتجها المحلي الإجمالي، تُظهر الإمارات مزيجاً من القوة المالية والأهداف الجيوستراتيجية التي تدل على سعيها للعب دور رئيسي بتشكيل الأحداث في المنطقة وخارجها.
ويمثل هذا الاستثمار دلالةً على المقاصد، في وقتٍ تسعى فيه الإمارات إلى تعزيز نفوذها بمضاهاة قوى خليجية -المملكة العربية السعودية وقطر- بينما يتضاءل نفوذ الولايات المتحدة مع استمرار الحرب بين إسرائيل وحماس، ما يطرح تحديات جديدة في منطقة حيوية للعالم لإنتاج الطاقة وخطوط الإمداد.
وما يزال الحكم مبكراً على جدوى خطوة الإمارات العربية المتحدة. لكن بالنسبة لمصر، القلب النابض للعالم العربي تاريخياً والدولة الأكبر من حيث عدد السكان بنحو 105 ملايين نسمة، كانت الفوائد فورية. في غضون أيام من إيداع أبوظبي الأموال لدى القاهرة، خفضت السلطات المصرية قيمة الجنيه، وأكملت محادثاتها التي استمرت شهوراً مع صندوق النقد الدولي بصفقة قرض قيمته 8 مليارات دولار. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي امتنع قبل ذلك عن تخفيض قيمة العملة باعتبارها “أمناً قومياً”.
دعم استقرار مصر
من على بعد نحو 1500 ميل من رأس الحكمة، أعطى رئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الضوء الأخضر لتحقيق هدف قصير المدى يتمثل بدعم مصر، التي كانت في قلب احتجاجات عام 2011 التي أطاحت بأنظمة في المنطقة، بحسب أشخاص مطلعين على القرار طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم، أشاروا إلى أن مصر أكبر من أن يُسمح بفشلها.
في هذا الشأن، قالت ابتسام الكتبي، رئيسة “مركز الإمارات للسياسات”، وهو مركز أبحاث مقره في أبوظبي: “إن تفاقم التحديات الاقتصادية في مصر ليس في مصلحة الإمارات.. والهدف هو ضمان الاستقرار”، وتجنب عودة الجماعات الإسلاموية مثل جماعة “الإخوان المسلمين” التي تزدهر في أوقات الاضطرابات.
تتجلى الضرورة الأوسع لدعم مصر -وهي أيضاً دولة عبور أساسية للمهاجرين إلى أوروبا- في خطط الاتحاد الأوروبي لتقديم حزمة مساعدات قيمتها نحو 8 مليارات دولار، بما في ذلك استثمارات بمجال الطاقة وبمشاريع في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس. وهي حزمة أُعلن عنها ضمن زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى القاهرة يوم الأحد.
الاستثمار المفاجئ
إن فكرة تطوير “رأس الحكمة” لم تأتِ من العدم، فقد كان لدى السلطات المصرية خطط طويلة الأمد بشأن المنطقة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لكن هذه الخطط جُمِّدت عندما بدأت محادثات جادّة مع الإمارات الصيف الماضي، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر.
مع ذلك، فإن توقيت الصفقة وحجمها وسرعة تسليم الأموال فاجأ الأسواق المالية وحتى صندوق النقد الدولي. وقال ثلاثة أشخاص آخرون إن الصندوق، الذي كان من المتوقع على نطاق واسع أن يكون المصدر الرئيسي للتمويل الطارئ لمصر، لم يكن على علم بالمناقشات إلا متأخراً. وطلب جميع الأشخاص عدم الكشف عن هوياتهم نظراً لمناقشتهم مسائل حساسة تجارياً وسياسياً.
كان استثمار أبوظبي هائلاً، حتى بمعايير دولة الإمارات العربية المتحدة، مع أن ضخ مبلغ أقل ربما كان كافياً لإبقاء مصر واقفة على قدميها. ويعادل المبلغ المرصود لتطوير رأس الحكمة البالغ 24 مليار دولار، بالإضافة إلى 11 مليار دولار التي سيتم تحويلها من ودائع إلى استثمارات، إجمالي احتياطيات مصر من النقد الأجنبي في فبراير. كما أنها تمثل بالنسبة لـ”القابضة أبوظبي” (ADQ) –صندوق الثروة الذي يقود الصفقة– نحو 17.5% من الأصول التي يديرها.
في سياقٍ موازٍ، يُعد إنفاق مصر على المشاريع العملاقة موضع تساؤل. فقد زادت العاصمة الإدارية الجديدة التي بدأت تتشكل في الصحراء شرق القاهرة منذ عام 2015 من مشكلات ديون البلاد. ورغم الافتخار بأنها تضم أطول برج في أفريقيا وأكبر مسجد وكنيسة في البلاد، إلا أنه كان هناك صعوبات في تأمين الاستثمار الأجنبي للمدينة الجديدة التي تحظى بزيارات محدودة، باستثناء العاملين في مباني الوزارات الحكومية الجديدة اللامعة. في حين ما يُنتظر إطلاق اسمٍ رسمي عليها.
تستثمر الإمارات العربية المتحدة بالفعل بكثافة في مصر، التي تدفق إليها الدعم منذ عرّض الغزو الروسي لأوكرانيا اقتصاد الدولة المثقل بالديون لمخاطر طويلة الأمد. وفي سلسلة من الصفقات منذ أوائل عام 2022، أصبحت “القابضة” أكبر مساهم في اثنتين من أكبر ثلاث شركات مدرجة في مصر (البنك التجاري الدولي، والشركة الشرقية للدخان منتجة السجائر الرئيسية في البلاد).
كما أنها تعمل بشكل وثيق مع أكبر مطور عقاري خاص في مصر “مجموعة طلعت مصطفى”، التي لعب رئيسها دوراً محورياً في كل من صفقة رأس الحكمة، وبيع الحصص المملوكة للدولة في عدد من الفنادق التاريخية الأكثر شهرة في مصر. وفي وقتٍ عانى اقتصاد البلاد ضعفاً، وفقد الجنيه المصري ثلثي قيمته خلال عامين، ارتفعت القيمة السوقية لشركة طلعت مصطفى ثلاث مرات تقريباً، بالقيمة الدولارية، خلال تلك الفترة. ومنذ بداية هذا العام وحده، تضاعف سعر سهمها تقريباً.
رؤية مستقبلية لرأس الحكمة
قرب شمال شبه الجزيرة، يعكف فريق متخصص بأنشطة البناء منذ أكثر من عام على تحضير الأرض لطريق سريع متعدد المسارات، وهو جزء من مخطط التطوير السابق الذي سترثه شركة “القابضة”. في تلك المنطقة، تعيش بعض العائلات البدوية ضمن تجمعات صغيرة في منازل من الطوب، تترابط بطرق متعرجة أغلبها ترابية. وتلقت تلك العائلات بالفعل تعويضات مالية وتخطط للانتقال إلى أماكن أخرى.
وعكس إعلان “القابضة” عن الصفقة تفاؤلاً بشأن إمكانات “رأس الحكمة”، ويصر أشخاص مطلعون على الخطط الإماراتية على أن هناك مبررات اقتصادية قوية. لكن بمتوسط سعر للأرض في المنطقة يتراوح بين 100 إلى 120 دولاراً للمتر المربع، لم تكن الصفقة بمثابة استحواذٍ بسعرٍ زهيد.
من المؤكد أن الخطط طموحة لمشروع رأس الحكمة، الذي تبلغ مساحته ثلاثة أضعاف مساحة مانهاتن، ويقع على الساحل الممتد غرب الإسكندرية باتجاه ليبيا؛ وهي مساحة من الرمال الذهبية المفضلة منذ فترة طويلة لدى المصريين الأثرياء الذين يقضون الصيف في فيلاتهم. وتَعِدُ “القابضة” بتوفير مرافق سياحية راقية لتحويل المنطقة، التي تشتهر بين الغربيين بأنها موقع لبعض معارك الصحراء الرئيسية في الحرب العالمية الثانية، إلى وجهة ذات جاذبية عالمية.
وستبدأ أعمال التشييد في المشروع عام 2025، حيث حددت مصر هدفاً يتمثل في جذب 8 ملايين سائح سنوياً إلى الوجهة. وهو هدف طموح أيضاً، بالنظر إلى أن البلاد بأكملها استقبلت 14.9 مليون زائر العام الماضي. ويشير البعض إلى مثال الجونة، وهي مدينة جديدة بنيت على الساحل الشرقي للبلاد على البحر الأحمر منذ أكثر من ثلاثة عقود وتستضيف مهرجانات سينمائية وموسيقية ولديها العديد من السكان الدائمين.
وبحسب سميح ساويرس، أحد أفراد العائلة المصرية الثرية التي أنشأت مدينة الجونة وطورت أيضاً منتجعات في سويسرا والجبل الأسود والإمارات، فإن رأس الحكمة “يمكن أن تكون وجهة سياحية على مدار العام”. وأضاف في مقابلة: “يمكن تعويض الطقس بالغولف والثقافة والتسوق وتناول الطعام. وبسبب مساحتها الكبيرة، يمكنها أن توفر الفرص الاستثمارية بكافة مجالات الترفيه”.
من جهته، يرى زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء المصري السابق والرئيس السابق لهيئة الاستثمار، أن الصفقة تظهر رغبة الإمارات في “المشاركة بحزمة الإنقاذ الاقتصادي التي وضعها المجتمع الدولي لأسباب جيوسياسية، وللحفاظ على استقرار مصر والمنطقة”. لكنه أضاف أنها تظهر أيضاً “موقفاً جديداً يأخذ في الاعتبار العائد من هذا الدعم الاقتصادي ويحاول التوصل إلى صيغة مربحة للجانبين”.
منافسة خليجية
بعد الإعلان عن استثمار رأس الحكمة، أحيت المملكة العربية السعودية محادثاتٍ سابقة لتطوير منطقة شاطئية تسمى رأس جميلة، قرب منتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر، في صفقةٍ قد يبلغ حجمها عدة مليارات من الدولارات، بما يمثل جانباً تنافسياً خليجياً جديداً.
وتمضي السعودية قدماً في مشاريعها العملاقة التي حطمت الأرقام القياسية، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وتسعى لأن تصبح مركز استقطاب الاستثمارات الأجنبية، الذي تبوأته الإمارات. كما كان لدى البلدين وجهات نظر متباينة بشأن مستويات إنتاج النفط.
دولة قطر بدورها، تستفيد بشكلٍ كبير من الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي المسال، كما تبرع بممارسة القوة الناعمة من خلال قناة الجزيرة الفضائية، واستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم، واستعدادها للتوسط في المحادثات بين الغرب والدول الإقليمية والجماعات المسلحة مثل حماس وطالبان. وبعد إنهاء خلافها الذي دام قرابة عقد من الزمن مع القاهرة، والذي نشأ بسبب دعمها لجماعة “الإخوان المسلمين”، أصبحت الدوحة تبحث أيضاً عن فرص استثمارية في مصر.
خطوات جريئة
تتباين مواقف دول الخليج العربي بشأن السياسة الخارجية أحياناً عديدة. واتخذت الإمارات خطوات جرئية خلال السوات الأخيرة، كاتفاقية التطبيع التاريخية مع إسرائيل، فيما يُزعم أنها تدعم قادة عسكريين في ليبيا والسودان، وحركة انفصالية في جنوب اليمن. كما استثمرت بكثافة في المشاريع الحكومية والبنى التحتية في القرن الأفريقي، حيث تسعى إلى تعزيز نفوذها حول البحر الأحمر، وهو ممر تجاري حيوي تهدده الآن هجمات الحوثيين.
تتمتع أبوظبي بالصدارة الاستثمارية في مصر، بينما كانت السعودية ودول أخرى أكثر تحفظاً. وتعهدت الرياض باستثمارات بمليارات الدولارات عام 2022، نُفِّذ منها حتى الآن صفقات للاستحواذ على حصص في شركات مصرية من خلال شركة تابعة لصندوقها السيادي. وانسحبت من مباحثات بشأن تملُّك بنك رئيسي، بعد خلاف حول تقييمه.
وبينما تُعتبر رأس الحكمة صفقة جيدة بالنسبة للإمارات تضمن ما ستضخه من أموال بأصول ملموسة، إلا أنها “أيضاً وسيلة لزيادة التأثير على مصر”، بحسب ريكاردو فابيان، مدير مشروع شمال أفريقيا في “إنترناشونال كرايسيس غروب”. ومع ذلك، لا يتوقع فابيان أن يغير ذلك من مواقف القاهرة بشأن الأزمات في السودان وليبيا المجاورتين، حيث تختلف وجهات النظر مع أبوظبي.
ثمن الاستقرار
دعم دول الخليج لمصر ليس جديداً، فلطالما كانت مانحاً منتظماً للبلاد خلال الأزمات السابقة، بما في ذلك عام 2013 عندما عزل رئيس الأركان آنذاك عبد الفتاح السيسي الرئيس محمد مرسي بعد احتجاجات واسعة في البلاد ضد جماعة “الإخوان المسلمين” التي ينتمي إليها الأخير. وتعارض الإمارات بشدة الحركات الإسلاموية السياسية مثل “الإخوان”.
مع ذلك، فإن ثمن الحفاظ على هدف تحقيق الاستقرار يرتفع. فوفقاً لبيانات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، قدّمت الإمارات والسعودية والكويت مجتمعة 34 مليار دولار لمصر في الفترة بين 2013 و2022 على شكل منح نقدية وشحنات نفط وودائع في البنك المركزي المصري. ومن المقرر أن تضخ أبوظبي (من خلال صفقة رأس الحكمة) أكثر من هذا المبلغ خلال شهرين فقط.
لعب دور إقليمي
مقابل ذلك، ربما تسعى أبوظبي إلى لعب دور في ما سيحدث لاحقاً في غزة، القطاع الفلسطيني الذي دمره الصراع بين إسرائيل وحماس؛ حيث يجرى نقاش حول سيناريو ما بعد الغزو: من سيحكم ويحفظ السلام هناك عندما ينتهي الغزو الإسرائيلي. لكن موافقة مصر ستكون ضرورية، فالبلاد لديها الحدود الوحيدة مع غزة غير الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية وكانت قناةً للمساعدات الإنسانية الماسة.
كما أن مصير نحو 1.2 مليون فلسطيني محاصرين في مدينة رفح على الحدود المصرية على المحك، حيث رفضت القاهرة مراراً مطالبات القوات الإسرائيلية بنقل أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء.
رغم أن الدعم المالي الضخم لمصر يخدم بوضوح هدف الإمارات في احتواء مخاوفها الإقليمية الرئيسية (الاضطرابات الشعبية والإسلام السياسي)، يشكك محللون في أن يسهم ذلك بالتأثير على صنع القرار في القاهرة إلى حدٍّ كبير.
في هذا الشأن تقول ميريت مبروك، من معهد الشرق الأوسط في واشنطن: “بالنسبة إلى مصر التي تحافظ على خط دبلوماسي مستقل، لا تترجم المساعدات المالية أو الاستثمارات تلقائياً إلى نفوذ سياسي أو دبلوماسي أو ليونة بالموقف”.