آخر الاخباراقرأ لهؤلاءالنشراتسياسة

واقع اقتصاديات الصحافة الالكترونية العربية وهل هناك فرصة لبيع المحتوى؟

د. صلاح عبدالجابر العربي

واقع اقتصاديات الصحافة الالكترونية العربية
على الرغم من مرور حوالي عقدين من الزمان منذ ظهور بعض الصحف العربية عبر شبكة الويب، إلا أن معظمها لم يستفد كثيرا من البيئة الإعلامية الجديدة التي وفرتها شبكة الإنترنت والتكنولوجيات المصاحبة لها، والتي أحدثت ثورة في مجال التواصل الإعلامي .
أن بعض وسائل الإعلام العربي، على الرغم من إمكانياتها الكبيرة وشهرتها (كالشرق الأوسط والخليج)، لم تستفد من الإمكانيات التواصلية الهائلة التي تتيحها الوسائط المتعددة، وظلت أسيرة لنمط الإعلام التقليدي الذي ينظر إلى شبكة الويب كفضاء ثانوي لا يتعدى التواجد فيه “أداء الواجب”، وهو يفتقر إلى الجدوى الاقتصادية والإعلامية، والأمر نفسه ينطبق على صحيفة إيلاف التي هي وليدة الويب؛ إذ لم تعتقد من أبرز نقاط قوة هذه الشبكة، ألا وهي الوسائط المتعددة .


إن ضعف استفادة الصحافة العربية من الخدمات التي تقدمها شبكة الويب يعود إلى عدة عوامل ، أبرزها :
بطء الاستجابة للتحولات التكنولوجية بسبب التباين بين المجتمعات العربية المختلفة والتباين داخل المجتمع العربي الواحد بين المدينة والريف؛ الأمر الذي يجعل تبني التكنولوجيات الجديدة عملية بطينة، مثل التحول من ثقافة القراءة الورقية إلى القراءة عبر الشاشات .
مقاومة الناشرين والإعلاميين العرب لضرورة التحول من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الجديد، من حيث الشكل والمحتوى، مما يجبر المعلن على الاستمرار في الترويح عبر المؤسسات الإعلامية التقليدية .
3- عدم إخضاع اقتصاديات الصحافة إلى دراسات جدوى جديدة تأخذ بعين الاعتبار إيجابيات التحول إلى النظام الاقتصادي الإلكتروني وسلبياته عندما تسعى المؤسسة الإعلامية للتحول نحو فضاءات الإعلام الجديد باعتبارها تشكل المستقبل في ظل الهروب الجماعي لجماهير وسائل الإعلام التقليدي نحو الإعلام الرقمي الجديد
على الرغم من مرور عقود على تعرض الجماهير العربية لوسائل الإعلام إلا أن الغالبية العظمى منها لم تعتد على الحصول على المحتوى الإعلامي مقابل دفع مبالغ مالية، إلا في حالات الصحافة المطبوعة، وفئـة قليلـة تـدفع مقابل مشاهدة بعض القنوات الفضائية وهذا شكل عقبة أمام الناشرين الإعلاميين وأقعدهم عن السعي للتحول نحو بيئة الويب
أولا : واقع الإعلان في الصحافة العربية الالكترونية
ان النظر في مواقع بعض الصحف الإلكترونية العربية والمواقع الإعلامية الأخرى ، يعطي مؤشرا عن واقع الإعلانات الإلكترونية وعلاقتها باقتصاديات تلك الصحف أخذا في الاعتبار التسعيرة التي يضعها كل موقع على حدة .
فعلى الرغم من مرور أكثر من عشر سنين على ظهور عدد مقدر من الصحف الالكترونية العربية ، إلا أن قدرتها على جلب الإعلانات حتى تصير مصدرا رئيسنا للدخل كما يحدث مع الصحف الورقية الناجحة اقتصاديا ، لا تزال ضعيفة ؛ ذلك أن جذب الإعلان الإلكتروني يتطلب توظيفا فعالا لخصائص الويب والخدمات التي تقدمها ، ويتطلب مواكبة للتكنولوجيات المتسارعة التي تهدف إلى سهولة الوصول إلى المتلقي ( عبر الأجهزة المحمولة القادرة على إيجاد حلول لجل متطلبات المستخدم )، كما يتطلب إقناعا للمعلن بفضل إعلانات الويب على الإعلانات التقليدية.
يغلب على إعلانات الإنترنت شكل اللافتة ( Banner )، خاصة في بدايات ازدهار الصحافة الإلكترونية في تسعينات القرن الماضي ، وهو عبارة عن إعلان مستطيل الشكل بعرض الشاشة أو ممتد رأسيا أو أفقيا يتسع للأسفل عند المرور عليه ( بالمؤشر أو اللمس )، يتضمن معلومات تشبه المعلومات التي نجدها في لافتة المحلات التجارية ، ونادرا ما يتضمن مقطع فيديو ولكنه قد يتضمن شكلًا من أشكال التحريك ( تحريك بعض الكلمات أو الصور ) .
تقوم بعض الصحف العربية – أسوة بنظيراتها الغربية- بتزويد المعلنين بمعلومات عن شكل إعلان اللافتة وحجمه ( الذي يقاس بالبيكسل وليس السنتيمتر مثل ما يحدث في الصحافة المطبوعة ) ، بالإضافة إلى الأسعار التي تختلف باختلاف الصفحة الرئيسة والصفحات الداخلية، أو أعلى الصفحة ( بجوار اللوغو ) وأسفلها .
كما تتخذ الإعلانات شكل الرعاية ؛ حيث يستضيف الموقع مقطع فيديو إعلانيا يروج للمعلن ، ويظهر بكيفية تلقائية ( كما يحدث في مقاطع الفيديو الموجودة في اليوتيوب التي تظهر فيها إعلانات فيديو في بداية تشغيل الفيديو المعني بحيث يمكن تخطي الإعلان بعد مرور 5 ثوان ، أو يظهر أثناء تشغيل الفيديو فيضطر المشاهد كذلك لانتظار 5 ثوان على الأقل قبل تخطي الإعلان )؛ أو بعد تشغيله .
فعلى سبيل المثال إذا أخذنا نموذج صحيفة إيلاف باعتبارها من أوائل الصحف العربية التي نشأت عبر الويب يوم ۲۱ / آيار ۲۰۰۱ – نجد أنها تقدم معلومات مفصلة عن تسعيرة الإعلانات ؛ حيث يدفع المعلن مقابل كل ألف مشاهدة، وفقا لشكل الإعلان وحجمه وموقعه.
تتراوح أسعار إعلانات اللافتة في صحيفة إيلاف بين ٢٤ إلى ٣٢ دولارا في الصفحة الرئيسة، و ٢٠ إلى ۲۸ دولارا في الصفحات الأخرى، بينما تتراوح الأسعار عند صحيفة الراية القطرية بين 16.5إلى 24.7 دولارا في الصفحة الرئيسة ، و 16.5 إلى 19 دولارا في الصفحات الأخرى ، ونجد أن صحيفة غلف تايمز ، الناطقة باللغة الإنجليزية ، تعتمد تسعيرة أعلى ؛ حيث تتراوح أسعار الإعلان في الصفحة الرئيسة بين 13 إلى 88 دولارا ، و 13 إلى 71.5 دولارا في الصفحات الأخرى .
ويلاحظ أن هذه الأسعار تقترب إلى حد ما من الأسعار المتداولة في بعض الدول الغربية التي كانت سباقة إلى الاستفادة من إعلانات الإنترنت ؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية تتراوح أسعار الإعلانات بين 5 إلى 87 دولارا ؛ بينما تتراوح الأسعار في فرنسا بين 26 إلى 78 دولارا .
من أبرز نماذج الإعلانات في الصحافة الإلكترونية العربية ، نجد أن صحيفة إيلاف تقدم ثلاثة إعلانات تظهر مع كافة المواد الإعلامية ؛ الأمر الذي يجعلها أكثر عرضة للمشاهدة من لدن المتلقي القارئ . أما صحيفة الراية القطرية فتقدم أربعة إعلانات مختلفة، يقتصر أحدها على الصفحة الأولى وتظهر الثلاثة الأخرى في كافة الصفحات . وتقدم صحيفة الشروق الجزائرية عبر بوابتها (التي تتضمن تسعة مواقع إعلامية مختلفة) أربعة إعلانات مختلفة عبر صفحتها الرئيسة والصفحات الأخرى، علما بأنها تتوفر على موقع خاص بالإعلانات المبوبة (أسواق الشروق) . وتتفق صحيفة رأي اليوم الإلكترونية الصادرة من لندن مع بقية الصحف العربية في معدل عدد الإعلانات التي تظهر في الصفحة الواحدة (ثلاثة إلى أربعة)، ولكنها تتميز باقتصار بعض الإعلانات على الصفحات الداخلية .
ثانيا : بيع المحتوى في الصحافة الإلكترونية العربية
بحكم كون غالبية الصحف الإلكترونية العربية عبارة عن نسخة موازية للنسخة الورقية مع تغييرات طفيفة أو نشأت عبر الويب ولكنها تنطلق من التجارب الورقية وتقتفي أثرها على مستوى إعداد المحتوى والصفة الدورية، فهي لم تستثمر بعد الخصائص التي توفرها شبكة الويب لمن يسعى لتقديم خدمات إعلامية جديدة ومتميزة تستحق الدفع ذلك أن التكلفة الكبيرة لإعداد المحتوى الإعلامي الأصيل تدفع غالبية المؤسسات إلى أن تدخل الحد الأدنى من العمليات التحريرية على المادة الإعلامية التي توفرها وكالات الأنباء ، أو يوفرها الصحفيون المواطنون ، أو توفرها شبكات التواصل الاجتماعي، والمتلقي لن يدفع لمحتوى يمكن أن يحصل عليه في مكان آخر مجانا عبر محركات البحث كما أن صعوبة حماية المادة الإعلامية من النسخ والتمرير، يجعل من الصعب الاعتماد على مداخيل تأتي من خلال بيع المحتوى إلا في نطاق ضيق لمؤسسات بعينها شريطة أن يفصل المحتوى الإعلامي ليناسب حاجياتها.
هكذا نجد ان الصحف الإلكترونية العربية لا تعتمد على بيع المحتوى من خلال الاشتراكات لعدم قدرتها على توفير المحتوى المتميز الذي يستجيب لحاجيات جهات بعينها تبحث عن المحتوى الإعلامي الذي يتجاوز الاخبار المتبادلة الى المحتوى الإعلامي التحليلي او الاستقصائي او المعلوماتي الذي تحتاجه مراكز البحوث والشركات والمؤسسات الحكومية
مرتكزات النموذج الاقتصادي للصحافة الالكترونية العربية
تشير الدلائل المستمدة من التجارب الإعلامية العالمية والعربية الى صعوبة استمرار الاعلام التقليدي في ظل هروب جماهيره الى الاعلام الجديد حيث يتوفر المحتوى الإعلامي مجانا عبر مواقع الويب والتطبيقات المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي، هذا الامر ينطبق على الصحافة العربية التي أجبرت على التواجد عبر الويب ومن ثم تقليص نفقات انتاج نسخها الورقية والتحول التدريجي نحو تبني اقتصاديات الصحافة الالكترونية التي تعتبر حتى الان اقل ربحية من الصحافة الورقية بحكم كون المعلن الذي هو مصدر رئيس لمداخيل الصحافة الورقية تتوفر له خيارات اكثر فاعلية واقل تكلفة من ذي قبل.
يرتكز النموذج الاقتصادي للصحافة الإلكترونية مثلها مثل بقية المشاريع الاقتصادية على النفقات الضرورية لإطلاق المشروع وتسييره ، والمداخيل التي قد تغطي هذه النفقات وتفيض محققة الريح . وهناك ارتباط وثيق بين حجم النفقات ونوعيتها من جهة وتحقيق المداخيل من جهة أخرى هذه العلاقة ليست طردية أو عكسية بسيطة ، بل علاقة معقدة تكـون أحيانا طرديـة وأحيانا أخرى عكسية وفقا للظروف والمتغيرات التي تواكب عملية إطلاق المشروع أو تواكب تسييره في الأوقات الطبيعية أو أوقات الأزمات ففي مرحلة إطلاق المشروع قد تنشأ علاقة طردية بين الانفاق وقوة وجودة انطلاق المشروع وبعدما ينطلق المشروع قد تؤدي زيادة الإنفاق إلى تقليص الأرباح (علاقة عكسية)
وفي بعض الحالات قد تنشأ علاقة عكسية بين ضعف الإنفاق على إطلاق المشروع وزيادة الأرباح إذا صاحب عملية الإطلاق قدر من الحماس والصمود والإبداع والتفرد مما يجعل المشروع يبدأ بإمكانيات متواضعة ولكن سرعان ما ينمو ويحقق نجاحا باهرا .
نفقات الصحافة الإلكترونية العربية
أهم ميزة للصحافة الإلكترونية أن نفقاتها أقل بكثير من نفقات الصحافة الورقية لأن هذه النفقات تكاد تقتصر على مرحلة الإنتاج الرقمي للمحتـوى، بينما ترتفع نفقات الصحيفة الورقية عندما يتم تحويل المحتوى الرقمي إلى سلعة ورقية ( التكلفة الباهظة للورق والطباعة بسبب غلاء المطابع والعلاقة الطردية بين حجم المرتجعات والخسارة المادية ) ثم عملية إيصال هذه السلعة الورقية الى القارئ (التوزيع الذي تزداد تكلفته باتساع رقعة الجمهور وما اذا كان هذا الجمهور داخل الدولة او خارجها
كما أن الصحافة الإلكترونية استفادت من التسارع التكنولوجي الذي جعل الأجهزة المستخدمة في إنتاج المحتوى الإعلامي أجهزة شعبية يسهل امتلاكها من لدن عامة الناس، بينما كانت الأجهزة المستخدمة في إنتاج المحتوى الإعلامي التقليدي أجهزة مختصة باهظة الثمن (كالماسحات الضوئية والكاميرات الاحترافية والحواسيب وأجهزة فرز الألوان ) . فالصحفي الإلكتروني جاء في عصر يستطيع فيه أن ينتج محتـوى إعلاميًا باستخدام هاتفه النقال الشخصي ( يجري مقابلات ويرسل رسائل إلكترونية ويكتب نصوصا ويلتقط صورا ثابتة ويسجل مقاطع فيديو ومقاطع صوتية ويقوم بتحرير كافة الوسائط التواصلية ) دون أن يكلف المؤسسة الإعلامية أي مبالغ إضافية تتعلق بتخصيص أجهزة أو تهيئة مكان العمل أو بالتنقل عبر الأمكنة . ولا شك في أن الصحافة التقليدية كذلك استفادت من هذه البيئة المهنية التي توفرت للصحافة الإلكترونية .
وبحكم أن الصحافة الإلكترونية تعتمد اعتمادا كبيرا على شبكة الإنترنت -التي تشكل عصب الحياة المعاصرة- فإن نفقاتها تنسجم مع نفقات كافة السلع والخدمات التي تعتمد على الإنترنت وعنوانها الرئيس: رخص الثمن والتكلفة التواصلية ( النقل والاستنساخ والتحميل والتنزيل ) التي تكاد تقترب من الصفر مقارنة بعصر ما قبل الإنترنت .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى