خصوصية اللغة العربية وتفردها
د: محمد راضي الشيخ أستاذ البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن المساعد بكلية اللغة العربية جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية بماليزيا
خصوصية اللغة العربية وتفردها
إن اللغة هى وعاء الثقافة لأية أمة من الأمم ، فأية ثقافة من ثقافات الأمم المختلفة حول العالم في حاجة إلى لغة تكون بمثابة قالب أو وعاء تصب فيه الثقافة ، ولغة أية أمة من الأمم هى الطريقة التي تعبر بها عن مكنون مشاعرها وخواطرها وأفكارها ، والفكر والثقافة هما الجانب المعنوي من الحضارة الإنسانية ، فاللغة لها أهمية عظيمة فى الحفاظ على التراث الثقافي والفكري ومن ثم اكتسبت اللغات هذه الأهمية القصوى ، فكل أمة ناهضة أو تريد النهوض لابد وأن تهتم بلغتها اهتماما عظيما ، وتحافظ عليها وعلى انتشارها ووجودها قوية شامخة ، فقوة اللغة تكتسبها من قوة قومها وتقدمهم الحضاري والإنساني والفكري والثقافي وحبهم لها وحرصهم عليها.
اللغة العربية لها خصوصية لم تتوفر لغيرها من اللغات
اللغة العربية لها خصوصية لم تتوفر لغيرها من اللغات حول العالم ، هذه الخصوصية جعلت اللغة العربية تختلف اختلافا كبيرا عن باقي اللغات العالمية ، فهى لغة دينية مقدسة ليست مجرد لغة للتواصل والتفاهم كباقي اللغات ، بل هى لغة دينية بها يفهم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وبها يفهم كل التراث الفقهي والتشريعي وكل التراث الإسلامي بكل فروعه ومجالاته ، اختارها الله سبحانه وتعالى لغة آخر كتاب سماوي لآخر رسالة إلى الأرض لخاتم الأنبياء والرسل ، الكتاب هو القرآن الكريم والرسالة هى الإسلام آخر الرسالات ، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وخاتم المرسلين ، وآخر السلسلة المباركة من الوحى الإلهي للبشرية ، شاءت حكمته سبحانه أن يختار العرب لحمل تبعات هذه الرسالة الخاتمة ومن ثم خاطبهم بلغتهم حتى يفهموا الوحى الإلهي ، لأنه منوط بهم بعد ذلك تبليغ هذه الرسالة الخاتمة للعالم أجمع ، فكان من اللازم اللازب أن ينزل الوحى بلغتهم دون سائر اللغات ، نزل الوحى بلغتهم ولغة رسولهم الكريم المنوط به تبليغ الرسالة كاملة إليهم فترة وجوده صلى الله عليه وسلم بينهم ، قال تعالى : ” إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ” ( الزخرف : 3 ) ، وقال تعالى : ” وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ” ( سورة الشعراء : 192- 195 ) ، وقال تعالى : ” قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ” ( سورة الزمر : 28 ) ، هذه آيات قرآنية تدل دلالة قاطعة على مقصودية نزوله باللغة العربية ومعنى أنه عربي أى أن الحق سبحانه وتعالى خاطب العرب بألفاظ يفهمونها ودائرة على ألسنتهم ، ومكون من مفردات لغتهم ونزل على سنن لغتهم فى التكوين والقواعد النحوية والصرفية والأسلوبية والبلاغية ، ففي القرآن الكريم ما فى اللغة العربية من كل ما تتميز به اللغة العربية من قواعد خاصة بها وبتكوينها اللغوي وما يميزها عن سائر اللغات ، ومن ثم نجد نجد أساليب القرآن فى التعبير عن المعاني ومراد الله سبحانه دائرة على أساليب اللغة العربية فى التعبير ، وهذا لا ينفي أنه أتى فى قمة الفصاحة والبيان العربي ، ومن ثم كانت معجزة الإسلام الأولى والباقية فى عقب النبى صلى الله عليه وسلم هى القرآن معجزة بيانية ، وقف أمامها العرب أهل الفصاحة والبيان الذي امتازوا به عن بقية الأمم مشدوهين من فرط سحر بيانه وروعة أساليبه ، فأدركوا أن هذا البيان المعجز ليس من كلام البشر وإنما هو كلام إله خالق قادر على فعل ما يعجز عنه الإنس والجن مجتمعين ، لأنهم أهل الصناعة ومكمن هذا الفن ، والبيان صنعتهم التي ليس لهم دونها شئ ، فهم سجدوا لبيانهم سجدة خاشعة لم يسجدوها لأصنامهم ، لأن معجزة كل نبي تكون من جنس ما برع فيه قومه حتى يقدروا قيمتها ويعلمون بما لا يدع مجالا للشك أنها معجزة لا يستطيعها إلا إله قادر على فعل ما يعجز عن فعله الإنس والجن ، وتحداهم القرآن بالإتيان بمثله فعجزوا فكانت آية الإعجاز ، وكان العربي البدوي راعي الأغنام يكفيه سماع بعض آيات من القرآن حتى يعلن دون مواربة الدخول فى الإسلام ، لأنه أدرك فى هذه اللحظة الفاصلة أنه ليس كلام بشر فكلام البشر يعرفونه حق المعرفة ، وتركت لنا كتب السيرة حوادث كثيرة تثبت هذه الحقيقة وهى إسلام بعض الصحابة بمجرد سماعهم آيات من القرآن ، وما زال سحر القرآن متوهجا حتى كتابة هذه السطور وسيبقى هذا السحر ما بقيت الدنيا ، ثم انساح بعد ذلك الصحابة رضوان الله عليهم بهذه الرسالة يبلغونها فى الآفاق فى قارات العالم الثلاث للعرب وللعجم من فرس وروم وغيرهم حتى أظهر الله سبحانه الإسلام ، وصنع الإسلام حضارة ظلت مسيطرة على العالم أجمع ظاهرة عليهم بالأخلاق الحسنة والقوة المادية والمعنوية أكثر من ألف عام ، وما زالت آثار هذه الحضارة العريقة ماثلة للعيان شاهدة على ذلك التاريخ العريق والمجد التليد للحضارة الإسلامية ، ولا توجد ثقافة ما دون لغة تحمل هذه الثقافة فاللغة وعاء الثقافة ” فلا توجد ثقافة نمت وترعرعت إلا من خلال اللغة ( هدى عبد المجيد : صعوبات تعلم اللغة العربية ، ماجستير ، مخطوط ، جامعة مؤتة ، الأردن ، 2014م ) ، هذا كله بفضل فهم العرب لرسالة الإسلام الذي نزل بلغتهم فتلقوا الرسالة على وجهها الصحيح كما أرادها الحق سبحانه ، وحملوا على كواهلهم عبء هذه الرسالة وأدوها على وجهها الأكمل وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فجزاهم الله خير الجزاء إذن بملكنا أن نقول : إن اللغة العربية لغة مقدسة دينية ترتبط بالدين والعقيدة برباط وثيق وهذه خصوصية اللغة العربية لغة عالمية ليست لغة محلية خاصة بالعرب وحدهم وإنما لغة عالمية تخص ما يقارب ملياري مسلم فى كل أنحاء العالم ، يؤذنون خمسة آذانات باللغة العربية ، ويصلون خمس صلوات بكل مفرداتها وكلماتها باللغة العربية بقراء فاتحة الكتاب وما تيسر من القرآن والتسبيح فى الركوع والسجود وبقية حركات الصلاة باللغة العربية ، وحفلت كل اللغات غير العربية التي يتكلم بها المسلمون من غير العرب بكلمات كثيرة عربية نتيجة للبعد الديني هذا ، فهناك كلمات لها طابع ديني مثل الصلاة والركوع والسجود والحج والعمرة والزكاة والصيام والأضحية وغيرها من الكلمات الأخرى فى كل اللغات المحلية للمسلمين حول العالم فى ماليزيا وتركيا وإيران وغيرها من البلاد الإسلامية ، ومن هنا اكتسبت اللغة العربية صفة العالمية ، فهى – كما ذكرت – ليست لغة محلية ضيقة تخص قوما محددين ، وإنما هى لغة تخص المسلمين جميعهم حول العالم على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم ، فالكثير من أهل هذه البلاد حصلوا على شهادات جامعية بكالوريوس وماجستير ودكتوراه فى اللغة العربية والشريعة وأصول الدين والدراسات الإسلامية من من مصر وغيرها من البلاد العربية المختلفة لحاجة هذه البلاد إلى هؤلاء أئمة وخطباء ولجان فتوى ومعلمين فى مدارس دينية وغيرها من المواقع التي تحتاج لمثل هذه التخصصات .
اللغة العربية محفوظة بحفظ القرآن الكريم
اللغة العربية محفوظة بحفظ القرآن الكريم نفسه لأن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظ القرآن من الضياع أو التحريف فقال سبحانه وتعالى : ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ” ( سورة الحج : 9 ) ، فالقرآن يحوي عشرات الآلاف من المفردات وعشرات الآلاف من الجمل والعبارات والأساليب البيانية المختلفة فى المواقف المختلفة ومن ثم حفظ ضمنيا اللغة أو إن شئت قلت هيكل اللغة بكل مكوناته ، فالقرآن الكريم هو القدوة والمثل الأعلى فى التعبير عن مراد الله سبحانه ثم الإنسان ، حيث يقتبس ويضمن ويتناص منه ما يشاء لما يريد من المواقف المشابهة لمواقف القرآن وهذه حقيقة ماثلة للعيان لكل من ألقى السمع وهو شهيد ، فالقرآن الكريم ثبّت النموذج الأمثل للغة الفصحى العربية فى أبهى صورها وأروعها ، وهذا من الأسباب الجوهرية التي وضعت حدا فاصلا لطغيان اللهجة العامية على اللغة الفصحى – فيما أرى – ففي كل اللغات تتطور اللهجة العامية والفصحى فتصبحا لغتين جديدتين بعد مرور وقت كبير يكون هناك اختلاف كبير بين اللغتين فى القديم والحديث ، وهذا – كما ذكرت – يختلف فى اللغة العربية بسبب وجود القرآن الكريم ولغته العربية الفصحى فى أروع صورها وأكثرها بهاء فيكون مصدرا مهما من مصادر المحاكاة .وللحديث بقية – إن شاء الله –