د. صلاح عبدالجابر يكتب: علاقة النبي محمد بالخطباء والشعراء الحنفاء والكهان قبل البعثة
بوابة القتصاد
لعل من اهم مظاهر الحضارة والثقافة في عصر ما قبل الاسلام وقبيل البعثة واثنائها خطب الخطباء المفوهين والذين كانوا يدعون الى التوحيد قبل بعثة النبي محمد، وكانوا يتجولون بين القبائل ويلقون خطبهم ومواعظهم كما كانوا يلتقون بالناس من مخلتف القبائل في لقاء سنوي يسبق موسم الحج باسبوعين هو سوق عكاظ في مدينة الطائف فيلقون خطبهم ومواعظهم على الناس المتجمعين هناك والذين اتوا من شتى بقاع الجزيرة العربية للحج والتجارة والاستماع اليهم.
كانت تعقد في سوق عكاظ ندوات ومساجلات وتلقى فيه الخطب والاسعار وسجع الكهان ويمكن ان نقول انه كان مهرجانا ثقافيا كبيرا وسنويا بامتياز ، وكان الرسول يذهب اليه ويستمع الى خطب الخطباء وشعر الشعراء وسجع الكهان مثل غيره من ابناء قريش ومكة والطائف ومثل بقية ابناء القبائل الاخرى في شبه الجزيرة العربية فالكل يريد ان يعرض ابداعاته الشعرية والنثرية ليتناقلها العرب في كل مكان وكان كل صاحب دعوة او كهانة او شعر او نثر يعرض ما لديه .
ويروى ان الرسول وابو بكر كانا يذهبان بشكل سنوي ويحضران سوق عكاظ وقد كانا من الحنفاء قبل البعثة وكانا يرغبان في تغيير المجتمع المحيط بهما لدرجة انهما كانا يظنان انه سيكون احدهما نبي هذه الامة واتفقا فيما بينهما على ان من تظهر نبوته اولا يؤمن به الثاني ويكون نصيرا له ووزيرا يشد في عضده ويقول الرسول عن ذلك كنتُ أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان – يعني: في السباق نحو النبوة- فسبقتُه إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني لاتبعته” لذلك كانا يذهبان لسوق عكاظ ويستمعان ويتفاعلان مع الخطباء والشعراء حتى يتعرفا على الموجود والمتميز قبل اعلان دعوتهما. وسنورد في هذا المقال مثال لثلاثة من الحنفاء الذين تاثر بهم النبي محمد وهم قس بن ساعدة الابادي وزيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي وأبو قيس، واسمه: صرمة بن أبي أنس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.
وكان قس بن ساعدة الإيادى من أشهر خطباء ما قبل البعثة وأول مَن قال: «أما بعد» و«البيِّنة على مَن ادَّعَى واليمينُ على مَن أنكر» و«اسْمَعُوا وَعُوا، ومَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات» وقد أدركه الرنبي محمد وابو بكر قبل مهبط الوحى بعشر سنين، استمعا الى خطبه في سوق عكاظ وقال فيه النبي بعد ان اعلن الرسول نبوته: «يرحم الله قساً، إنى لأرجو يوم القيامة أن يُبعث أمة وحده»، وهذه الخُطبة قالها «قس» فى سوق عُكاظ قبل ظُهور الإسلام، ومما قاله فيها:
«أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت.. مطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمع وأشتات، لَيْلٌ دَاج، وَنَهَارٌ سَاْج، وَسَماءٌ ذَاتُ أبْرَاجٍ، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ومهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تَمور، وبحار لا تغور، وَنُجُومٌ تَزْهَر، وَبِحَارٌ تَزْخَر.. إِنَّ فِى السَّمَاءِ لَخَبَراً، وإِنَّ فِى الأرضِ لَعِبَراً، مَا بَاْلُ النَّاسِ يَذْهبُونَ وَلاَ يَرْجِعُون؟!، أرَضُوا فَأَقَامُوا، أمْ تُرِكُوا فَنَامُوا؟، تباً لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية. يا معشر إياد.. يا مَعْشَرَ إيَاد: أيْنَ الآبَاءُ والأجْدَادُ؟، وأيْنَ الفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ؟، أَلَمْ يَكُوْنُوا أكْثَرَ مِنْكُم مَالاً وأطولَ آجالاً؟، طَحَنَهُم الدهْرُ بِكَلْكَلِهِ، ومزَّقَهم بتطاوُلِه.. يقسم (قس) بالله قَسَماً لا إثم فيه إن لله ديناً هو أرضَى لكم وأفضل من دينكم الذى أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكراً».
ويُروى أنه أنشد بعدها، فقال:
فى الذاهبينَ الأولينَ مِن القرونِ لنا بَصائر
ورأيتُ قومى نَحوها تَمضى الأكابر والأصاغِرُ
لا يَرجعُ الماضى إلىَّ ولا مِن الباقين غابر
أيقنتُ أنى لا محالةَ حيثُ صارَ القومُ صائر
وكان للنبي محمد لقاءات خاصة وعامة بقس بن ساعدة الإيادى قبل اعلان النبوة وقس كان من حكماء العرب قبل الإسلام، وقد تُوفى حوالى عام 600م، ويعده «الشهرستانى» فى كتاب «المِلَل والنحل» بين مَن يعتقد التوحيد ويؤمن بيوم الحساب، «وكان زاهِداً فى الدنيا، خاصة بعد أنْ مات له أخوان ودفنَهُما بيده، وكان يَحضُرُ سوقَ عُكاظ ويَسيرُ بَين الناس ويُنذِرهُم.. ولقد ضُرِبَ بِه المَثلُ فى الخطابة والبلاغة والحكمة».
وتُنسب إلى قس بن ساعدة حِكَم كثيرة، منها: «إذا خاصمتَ فاعدل، وإذا قلتَ فاصدق، ولا تستودعنَّ سرك أحداً، فإنك إن فعلتَ لم تزل وجِلاً»، و«مَن عيَّرك شيئا ففيه مثله، ومَن ظلمك وجد مَن يظلمه، وإذا نهيتَ عن الشىء فابدأ بنفسك، ولا تشاور مشغولاً وإن كان حازماً، ولا جائعاً وإن كان فهِماً، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً».
كان «قس» خطيب العرب قاطبة، وإذا كان الخطباء كثيرين، والشعراء أكثر، فإن مَن يجمع الشعر والخطابة قليل، وكان مضرب أمثال العرب فى البلاغة إذا ما عبروا عن خطيب أو شاعر بليغ، فيقولون: «أبلغ من قس».
ومما يُذكر عنه أنه أول مَن خطب متكئاً على عصا، وأول مَن قال: «أما بعد»، وأول مَن كتب: «من فلان إلى فلان»، وأول مَن قال: «البيِّنة على مَن ادَّعَى واليمينُ على مَن أنكر»،
ومما ذُكر عنه أنه كان يُنكِر المُنكر، الذى شاع فى الجاهلية والغفلات التى كانت تسيطر على الناس، فتُنسيهم الموت والبعثَ والجزاء
وهناك رجل اخر كان من الموحدين قبل البعثة وكان له تاثير كبير في تفكير النبي محمد وهو زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي مؤمن حنيفي، أحد أشهر الموحدين في الجاهلية، وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة. نبذ عبادة الأصنام في الجاهلية، ووحد الله باحثاً عن دين إبراهيم الحنيف. ارتحل في الجزيرة العربية والشام والعراق باحثاً عن الدين الحق، وهناك قابل أحبار اليهود والنصارى، ولم يقتنع باليهودية ولا النصرانية فظل على حنيفيته، وبعدها رجع زيد إلى مكة، وقد لقي محمداً غير ما مرة، غير أنه لم يدرك البعثة، وذكر عنه النبي أنه كان يأبى أكل ما ذبح للأصنام وعلم محمد ذلك.
قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيداً بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: «يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري»، ثم يقول: «اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم»، ثم يسجد على راحلته.
وجاء في صحيح البخاري: «عن عبد الله بن عمر، رضى الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْوَحْىُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ سُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلاَ آكُلُ إِلاَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ.»
ومن شعر لـزيد بن عمرو بن نفيل قاله في فراق دين أهله:
أربــا واحـــداً أم ألـــف رب أديـن إذا تقـســمـت الامـــور
عزلـت الـلات والعزى جمــيــعاً كذلك يفعل الجـلـد الـصـبــور
فـلا عزى أديــن ولا ابنــتيـها ولا صـنـمـي بنـي عـمــرو أزور
ولا غنما أديـــن وكــان ربــاً لنا في في الدهر إذ حلمي يسير
عجبت فـي الليـــالي معجبـــاً تـوفي الأيـام يـعرفها البصيـر
بــأن الله قــد أفنـى رجـــــالا كـثـيراً كــان شــأنهم الفجور
وأبقـــى آخــريـن بــبر قـوم فـيربـل مـنـهم الطفل الصغيـر
وبينـا المرء يعثر ثـاب يومـا كـمـا تـروح الـغـصـن المطيـر
ولـكن أعــبــد الـرحـمن ربـي لـيـغـفـر ذنبـي الرب الغفـور
فتقـوى الله ربــكم احـفـظـــوها متى مـا تحـفـظـوها لا تبـوروا
تـرى الأبــرار دارهم جـنـــان ولـلـكـفــار حـامـيـة سـعيـر
وخزي في الحيـاة وأن يموتــوا يـلاقــوا مـا تضيق بـه الصدور
ومن شعراء بني عدي بن النجار: أبو قيس، واسمه: صرمة بن أبي أنس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. وكان أبو قيس ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وهمّ بالنصرانية، ثم أمسك عنها، ودخل بيتا، واتخذ مسجدا لا يدخله عليه طامث ولا جنب. وقال: أعبد رب إبراهيم حتى فارق الأوثان وكرهها، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم، وحسن اسلامه. وهو شيخ كبير.
وترى ان كل هذه الافعال من اتخاذه المسجد والاغتسال من الجنابة وغيرها فعل مثلها النبي محمد بعد اعلان نبوته، فهل هو مجرد تاثر ام ان هذه الافعال كانت منتشرة قبل الاسلام لا ندري.
وكان قوالا بالحق معظما لله – عز وجل – في الجاهلية. يقول في ذلك الأشعار الحسنة. ومن قوله في ذلك في الجاهلية:
يقول أبو قيس وأصبح غاديا … ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
وأوصيتم بالله بالبر والتقى … وأعراضكم بالله والبر أول
وان قومكم سادوا فلا تحسدوهم … وان كنتم أهل السيادة فاعدلوا
وان نزلت احدى الدواهي بقومكم … فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
وان أنتم أعزوتم فتعففوا … وان كان فضل المال فيكم فافضلوا
وان ناب أمر فادح فارفدوهم … وما حملوكم في الممات فاحملوا
ومن قوله ” في الجاهلية “:
سبّح الله شرق كل صباح … طلعت شمسه وكل هلال
عالم السر والبيان جميعا … ليس ما قال ربنا بضلال
وهو القائل حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة … يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم عرضه … فلم ير من يروي ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه … وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأنت به النوى … وكان له عونا من الله هاديا