ابو عمر القروي يكتب: مقامات رمضانية .. المواطن الصالح (يعوّض الله)
بوابة الاقتصاد
مقامات رمضانية ( ١٥ ) و الأخيرة
المواطن الصالح ( يعوّض الله )
* الأستاذ ( يعوض الله ) مواطن صالح جدا ، هكذا اسمه ( يعوض الله ) ؛ فقد أصر والده على إطلاقه عليه بعد أن وجدوا أخاه الذي يسبقه غريقا في الترعة ، قالوا بأنه تعلق بفرع شجرة توت ليلتقط بعض ثمراتها ، فضعف الفرع و انكسر فهوى إلى الترعة ، حيث وجدوه طافيا على صفحة مائها ، فراح الوالد يهزي و يردد بصوت يملؤه الشجن و الحزن ( يعوض الله يا ناس ) ، فلما جاء له مولود جديد ، كان هو الأستاذ ( يعوض الله ) .
* الأستاذ ( يعوض الله ) حريص على صرف التموين في موعده مهما كانت ظروفه ، يستقبل محصلي الكهرباء و المياه و الغاز بترحاب و كرم حاتميّ ، و لا بد من تناول الشاي معه .
* لديه بطاقة انتخابية يمارس بها حقه الانتخابي في دأب عجيب ، و لا ينتخب سوى مرشح الحكومة أيّا كان هو … ذات مرة حاول أحد الناس أن يقنعه بواحد من مرشحي المعارضة ، غضب و نهره قائلا : ( يا راجل عيب ، إنت شايف السفروت ده يفهم زي معالي المحافظ ) !!
* ظل الأستاذ ( يعوض الله ) في عمله الحكومي أربعين سنة متصلة ، لم يتأخر و لم يغب يوما واحدا ؛ إجازاته العارضة و السنوية بخيرها كما هي لم تُمس ، لم يُحوّل إلى التحقيق القانوني و لا مرة واحدة أبدا ، كان يطير فرحا بعلاوة قدرها خمسة جنيهات ، أو بدل سفر قيمته ثلاثة جنيهات ، و لا يطمع في مزيد .
* لما خرج إلى المعاش لم يغضب لتدني معاشه الشهري ، و كان يردد : ( كتر خير الحكومة برضه يا ولاد ، إحنا شعب كبير ، يكون بعونهم ربنا يقدرهم علينا و يقويهم ) ، يقصد المسؤولين طبعا .
* حياته في المعاش لها برنامج ثابت كأنه قطار يسير على قضيبين لا يحيد عنهما ؛ يصلي الفجر مع أصدقائه و ينام كثيرا ، و يشاهد الأستاذ ( أحمد موسى ) مرتين ؛ الأصلي و الإعادة ، و يردد ما يقول كما يسمعه دونما تحريف أو نقاش .
* في صلاة فجر يوم جمعة ، شعر بدوخة في الصلاة ، تحامل على نفسه حتى فرغ من صلاة الجماعة ، لكنه سقط على الأرض و هو يهمّ بالخروج من المسجد .
* حملوه إلى بيته ، لتبدأ رحلة عذاب في علاجه في التأمين الصحي ، قال الأطباء إن جلطة متحجرة ضربت قلبه ، ما هو قليل البخت يلاقي العضم في الشريان التاجي ، و يطول علاجه ، و ربما احتاج إلى قسطرة أو عدة دعامات في القلب الواهن .
* في معاودته لمستشفيات التأمين الصحي شاهد العجب العجاب ، كان الأطباء يعاملونه و زملاءه المرضى بقسوة و جلافة و فظاظة و استهتار ، و كأنهم متسولون ؛ أما الأدوية و العلاجات فمن جيبه الخاص و على حسابه ، حتى سرنجة الحقنة و لفة القطن و الشاش .
* رويدا رويدا بدأ الأستاذ ( يعوض الله ) يتبرم ، ثم يندهش ، ثم يتساءل عن حقه في العلاج ، لقد دفع الآلاف مُقدما لأربعين سنة ، كانت تستقطع من راتبه .
* ثم بدأ يغضب فينفعل – و الانفعال ليس في صالح قلبه العليل – لكنه تحوّل إلى إنسان آخر تماما بعد تجربة علاجه المريرة ؛ إنسان غاضب و ثائر و متمرد و رافض دوما ، حتى داهمته جلطة رقد على أثرها ، و لم يستطع الأطباء إنقاذه بتذويبها .
* و هو يُسلم روحه نظر إلى المحيطين حوله و تمتم بكلمات سمعتها زوجته القريبة منه ، حيث قال : ” هو أنا كنت حمار يا ولاد ، و مش داري ، يعوض الله عليك عوض الصابرين ، يا ( يعوض الله ) ، و على كل اللي زيك ” .
* رحمة الله عليه ؛ فقد كان مواطنا صالحا جدا … للحكومة طبعا .