بوابة الاقتصاد
مقامات رمضانية ( ٤ )
** في الحلاقة و الحلاقين ( دراسة مقارنة )
* كنا صغارا حين كانوا يطلقون على الحلاق لقب ( مِزيّن ) ؛ إذ كانت تمثل الحلاقة وقتها أعلى درجات التزين و التجمل .
* و كان الأب يقول لابنه : ( روح نضف راسك ) ، و كأن ( رأس المسكين ) ترعة أو مصرف تحتاج إلى تهذيب و تطهير ، و اجتثاث ما بها من حشائش و بوص هائج .
* و لم تكن الناس تملك نقودا لكي تحلق بها ، و لكن الأسرة كلها تحلق لمدة عام كامل مقابل جوالين من الأرز ، أو القمح عند حصادهما ، مع ما تيسر من حلل البيض ، و طشوت البصل ، و أشراش الثوم ، و هو نظام يسمى ب ( المِسانيّة ) ؛ حيث يتقاضى الحلاق أجرته كل ( سنة ) .

* و لم يكن الحلاق يكتفي بالحلاقة فقط ، و إنما – غالبا – ما يتعداها إلى ممارسة الطب ؛ من مداواة الجروح ، و خياطتها ، و تشخيص الأمراض ، و وصف الدواء ، و إعطاء الحقن ، و توليد المواشي أحيانا كثيرة ، و كانت أخطاؤه قاتلة في بعض الأحيان .
* هذا طبعا غير الحلاق المتجول ؛ ذلك الذي كنت تراه حاملا شنطته المتسخة المليئة بالعِدد التي أصابها الصدأ ، يتجول في الشوارع ، أو على محطات السكة الحديد أو في الموالد ، يحلق للناس جلوسا على الأرض ، و يجري عمليات الختان للأطفال ، و بدون تخدير وسط صراخهم ، و زغاريد الأهل .
* و كان يمكنك أن تستدعي الحلاق في القرية لكي يحلق لك ، و تسمع منه أحدث النكات ، و أخبار القرية ، و تشرب الشاي معه ، ثم تدس في جيبه ورقة بخمسة قروش ، يطير بها فرحا …
* أما حلاق اليوم فله شأن آخر تماما .. بداية لم يعد اسمه حلاق ، أو مزين ، و لا يلتفت لأحد يناديه بغير ( كوافير ) ، و ينطقها بعضهم هكذا ( كوافيغ ) !!
* و هو في الغالب شاب ناعم رقيق دقيق الأنامل طويل الأظافر ، ذو رائحة نفاذة ، يرسل شعره الأسود الفاحم اللامع و يطرحه خلف ظهره .
* و يطلق على دكانه اسما يليق بمهارته في الصنعة ، مثل : ( الأصابع الذهبية ) ، أو ( المقص الحرير ) ، أو يحمل لافتة تتراقص أنوارها لتعكس اسما أفرنجيا مثل : ( فرندز ) ، أو ( لاكوست ) ، أو ( دريمز ) .
* و أدواته حادة ماضية ، مسنونة ، متنوعة ، و منها الكهربائية لفرد الشعر و تجفيفه .
* لكن أغرب ما تراه اليوم عند الحلاقين المودرن ، هو ( تلييط ) أوجه الشباب بالطين ، أي و الله بالطين ، عندما تدخل يلفت انتباهك وجوه لشباب منهمكين يعبثون في هواتفهم المحمولة ، و وجوههم ملطخة بالطين الأسود ، و بعضها مدهون بطبقة بيضاء كثيفة لزجة ، و عندما تسأل الحلاق يقول لك بأنها ( صنفرة ) ، و بعض الناس لا تستوعب ما سمعت ، لأن الأجيال السابقة مبلغ علمها أن هناك صنفرة للخشب و للحديد و للجدران فقط ؛ أما صنفرة الوجوه بالطين هكذا ، فهي معلومة تفضح جهلهم الشديد .
* و اليوم إذا أعطيت هذا الحلاق ( المودرن ) خمسين جنيها – مثلا – ، قد يتناولها منك متأففا ، و ينظر إليك شزرا ، و كأنك شتمته ؛ رغم أنه قد لا يستغرق مع من جاوز الأربعين سوى عشر دقائق ، بدون سشوار أو صنفرة بالطين .