آخر الاخباراقرأ لهؤلاءسياسة

د. عادل محمد عبدالقادر يكتب: الصبر في طلب العلم

بوابة الاقتصاد

فالعلم شريف وعظيم، يكفي أن تعلم أن الله جلَّ وعلا قال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، فلا أحد يخشى الله جلَّ وعلا حقَّ الخشية إلا أهل العلم. وسُئل بعض السلف عن العلم؛ فقال: “إنما العلم الخشية”، أي: العالم هو الذي يخشى الله جلَّ وعلا في كل كلمةٍ ينطق بها، وفي كل خطوةٍ يخطوها، والله جلَّ وعلا يقول: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من زمنٍ يموت فيه العلماء ولا يكون لهم من يخلفهم في تدريس العلم وتبليغ هذه الأمانة، ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 39] فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنتَزِع الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنَ صدورِ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضه بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يبق في الأرضِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»[1].والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يحذِّر الإنسان أن يتكلم فيما لا يحسن، أو أن يتكلم من غير علمٍ وإتقانٍ، فيقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، ويقول أيضًا: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل: 116] فهذا تحذيرٌ من الله جلَّ وعلا من الخوض في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون علمٍ وبدون تثبتٍ.

محمد عبدالقادر
محمد عبدالقادر


حرص الصحابة على طلب العلم: فهذا هو الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاه يقول: “أي سماءٍ تظلني وأي أرضٍ تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي؟!” فلا بد للإنسان أن يصبر في طلب العلم حتى يتمكَّن ويشهد له أهل العلم الثقات بأنه على أول الطريق؛ لأن هذا الأمر يتطلب مزيدًا من الإتقان، ومزيدًا من الإخلاص، الإخلاص عزيز ، وهل ما نحن فيه من نكسات إلا بسبب عدم الإخلاص؟يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، وفي الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فهو للذي أشرك»[2].
فيا طالب العلم! إياك أن تجعل من هذا العلم سُلَّمًا لطلب الدنيا، أو أن تجعل من هذا العلم سُلَّمًا للفت الأنظار، واسمع معي إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلَّم العلم» – لأننا الآن نتكلم عن الإخلاص في طلب العلم – «ليجادل به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار»[3] وهذا الحديث أيها الأحبة من الأحاديث التي أرهبت أهل العلم وأخافتهم في الله جلَّ وعلا! أن تكون نية الإنسان في تعلم علوم الشرع أن يجادل في المجالس، أو أن يماري السفهاء أو أن يصرف وجوه الناس إليه، هذه مصيبة المصائب أيها الأحبة الكرام.
الإخلاص في طلب العلم:انظر إلى إخلاص الأئمة الذين جعل الله لهم قبولاً في الأرض وقبولاً في السماء:
فهذا الشافعي يقول كلمة تقطر بالإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول: “وددت أن لو نُشر علمي هذا ولم يُنسب إليَّ شيءٌ منه” لا يحب أن يقال: قال الشافعي، ليست العبرة عندي أن يقال: قال الشافعي، وإنما العبرة عندي أن يصل الفهم الصحيح للنص من كتاب الله أو من سنة رسول الله لطلبة العلم ولعوام المسلمين. هؤلاء هم الذين تعلموا الإخلاص حق تعلمه، من تعلَّم العلم ليماري به السفهاء أو يجادل به العلماء أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار.
مواقف من حياة السلف الصالح في الصبر على طلب العلم:
فهذا أبو أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي يقول: “لا يَنال هذا العلم إلا من عطَّل دكانه وخرَّب بستانه…” أحوال بعض الناس من كثرة انشغاله بطلب العلم احتسابًا لله جلَّ وعلا. عطَّل دكانه، وخرَّب بستانه أي: ترك الزراعة؛ لأن الأصل أيها الأحبة الكرام أن يفرغ طالب العلم للعلم، بل إن بعض أهل العلم أجاز لطالب العلم إذا كان فقيرًا أن يأخذ من سهم ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 60]، وهو أحد مصارف الزكاة أن يأخذ الزكاة ليتفرغ لطلب العلم احتسابًا لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقال ابن القاسم: “أفضى بمالك بن أنس – رَحِمَهُ اللَّهُ – طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه” في بداية الطلب.
وقال يحيى بن سعيد القطان حينما ذكروا أمامه طلب الحديث: “كنت أخرج من البيت قبل الغداة فلا أرجع إلى العتمة” يخرج من بيته قبل الفجر فلا يرجع إلا بعد صلاة العشاء.
وقال ابن شهاب: “مكثت خمسًا وأربعين سنة أختلف بين الشام والحجاز فما وجدت حديثًا أستبعد مكانه”
الله أكبر! ما أعظم الحرص على طلب العلم! الله أكبر! ما أعظم الإخلاص والتجرد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! الله أكبر! ما أعظم الحرص على نفع الناس وتبليغ العلم للناس!
يقول شعبة بن الحجاج – رَحِمَهُ اللَّهُ -: “إذا رأيت المحبرة في بيت إنسان فارحمه، وإن كان في كُمك شيءٌ فأطعمه”. لأن طلبة العلم في القديم كانوا فقراء، ولا يجدون مالًا يستعينون به في هذه الرحلة الشاقة، رحلة طلب العلم.
أحد السلف يقول: خرجت من بلاد الشام من دمشق إلى مصر، ومن مصر إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى العراق، ثم من العراق إلى الحجاز مرةً أخرى، يقول: سبع سنين، يقول: كل هذا على قدميَّ. وأنتم تعرفون أنه في الطريق لا يوجد ماء، وأحيانًا لا يوجد طعام، وأحيانًا لا توجد دابة تحمل طالب العلم إلى ما يريد، فتحدث لهم أحوال وحاجات ومشاق، كل هذا إخلاصًا لله، تجردًا لله، وطلبًا لمرضاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال سعيد بن المسيب -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إن كنت لأغيب الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. حديث واحد من أجله يتغيب عن أهله الأيام والليالي في طلب حديثٍ واحد.
أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يرزقنا وإياكم الحرص على طلب العلم.
صبر الإمام أحمد على العلم
ولما رأى أحد أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله جهده ومثابرته سأله قائلاً: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا كبيرًا؟! فقال له: “مع المحبرة إلى المقبرة” [6]!!
ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، رغم أنه لم يكن في عصره من هو أحفظ منه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم لَقَّبوه: “إمام السنة وفقيه المحدثين”. وهو الذي قال عنه ابن رافع: رأيت أحمد بن حنبل بمكة بعد رجوعه من اليمن وقد تشقَّقت رجلاه وأبلغ إليه التعب، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما أخلقني أن لا أرحل بعدها في حديث. قال: ثم بلغني أنه صار إلى أبي اليمان بعد اليمن، أي إلى حمص [7]!!وقد خرج الإمام أحمد إلى طرسوس ماشيًا على قدميه لعجزه عن النفقة في السفر!! [8].وهو الذي قال: “لو كان عندي خمسون درهمًا لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري (كان إمامًا في الرواية)، فخرج بعض أصحابنا ولم يمكني الخروج لأنه لم يكن عندي!!” [9].يقول الشافعي رحمه الله: “حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه” [10].
ويقول الإمام ابن هشام النحوي:ومن يصطبرْ للعلم يظفرْ بنيلهِ *** ومن يخطب الحسناءَ يصبرْ على البذلِ
وقال النظَّام: “العلم شيءٌ لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر” [11].
وصدق حوط بن رئاب الأسدي [12] حين قال:
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله *** لن تبلُغ المجد حتى تلعق الصبرَا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى