د. صلاح عبدالجابر يكتب: الرسول والشعراء في زمنه.. معارك شعرية واغتيالات وإيمان تحت حد السيف
بوابة الاقتصاد
حينما بدأت البعثة النبوية في مكة واتبع النبي بعض الشباب من أصدقائه وأقاربه وبعض الضعفاء والذين لم يتجاوز عددهم طوال 13 عاما في مكة 173 شخصا فقط، حدثت بين الرسول وبين زعماء مكة مساجلات وجدال كثير كان للشعراء بصفتهم الإعلاميين في ذلك الوقت ومن يقودون الرأي العام في مكة ومن حولهادور كبير في هذه المساجلات والمجادلات.
كان الرسول وبعض صحابته يسبون عبادة قريش ويسفهون من عقولهم ويعلون في الوقت نفسه من قيمة دينهم الجديد ويصفونه للقوم بأنه الدين الحق وأن ما عليه قريش من حرية دينية وتعدد باطل وشيء محتقر، ومن هنا بدأت المواجهة، فلو أنهم لم يبدأوا بسب معتقدات قريش لتقبلهم القوم مثل غيرهم من الديانات الموجودة في مكة وغيرها، فقد كان موجودا في مكة اتباع دين ابراهيم وبعض اتباع المسيحية بالاضافة الى الاديان الوثنية دون تدخل من أحد.
وحينما هاجر الرسول وبدأ تكوين دولته في المدينة وبمجرد السيطرة على الأمور نزلت آيات تحريم الشعر وسب الشعراء في سورة الشعراء: «والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».. (سورة الشعراء).
وقد أجمع المفسرون على أن المقصود في الآيات شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بالكذب وبالباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد، ولكنهم قالوا الشعر، وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يعنون بمجالسهم وسماع أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب من خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيهم، ويروون عنهم.
وروي أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرها، كعب بن زهير وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وعبدالله بن الزبعري، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب، ويروى أن الرسول أحل دماء بعضهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة ومنهم كعب بن زهير وأبوسفيان بن الحارث وعبداله بن الزبعري وآخرين غيرهم، وهناك من بعث إليهم بعض المسلمين فقتلوهم غيلة،
وهنا قال قائل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: اهج القوم الذين يهجوننا، فقال: إن أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عليّاً ليس عنده ما يراد من ذلك. ثم قال: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسيافهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه وقال: والله ما يسرني به يقول بين بصرى وصنعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال: ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك. فكان يمضي إلى أبي بكر رضي الله عنه ابن أبي قحافة. فمن قول حسان في أبي سفيان بن الحارث.
وأن سنام المجد من آل هاشمٍ.. بنو بنت مخزوم ووالدك العبدُ
ومن ولدت أبناء زهرة منهم.. كرامٌ ولم يقرب عجائزك المجدُ
ولست كعباس ولا كابن أمه.. ولكن لئيمٌ لا يقام له زند
وأن امرأ كانت سمية أمه.. وسمراء مغموز إذا بلغ الجهد.
فلما بلغ أبا سفيان هذا الشعر قال: هذا شعر لم يغب عنه ابن أبي قحافة.
يعني بقوله: بنت مخزون: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي أم أبي طالب وعبدالله والزبير بن عبدالمطلب، ويعني بقوله: من ولدت أبناء زهرة منهم، يعني حمزة وصفية، أمهما هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وقوله: عباس وابن أمه، وهو ضرار ابن عبدالمطلب أمهما نتيلة، امرأة من النمر بن قاسط، وسمية أم أبي سفيان، وسمراء أم أبيه الحارث.
وفي المدينة بعد تأسيس دولة صغيرة في يثرب وحصل المسلمون على قوة محدودة بدأ الرسول في نهج جديد مع الشعراء الذين يهجونه من أهل المدينة نفسها ممن هم تحت سيطرته فهؤلاء لن يتم الرد عليهم قصيدة بقصيدة وشعرا بشعر بل سيتم ارسال فرق الاغتيالات لقتلهم والتخلص من شرهم ومن هؤلاء كعب بن الأشرف وعصماء بنت مروان وأبو عفك اليهودي وأبي رافع بن عبد الله وأم قرفة الفزارية وتهديد غيرهم ونسورد شيئا عن هؤلاء فيما يلي:
- كعب بن الأشرف، رجل من طيء وأمه من يهود بني النضير وهو وشاعر يهودي أغتيل على يد محمد بن مسلمة وبتعاون أبو نائلة الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف وكان الاغتيال بتوجيه من الرسول محمد نتيجة لتحريض ابن الأشرف لقريش على الثأر لهزيمة غزوة بدر وإنشاده أشعاراً يبكي فيها قتلى قريش وقصائد أخرى شبب فيها بنساء المسلمين.
- الشاعرة عصماء بنت مروان هي من بني أمية بن زيد، كانت عصماء بنت مروان تحت رجل من بني خطمة ويقال له يزيد بن زيد، وكانت تعيب الإسلام وأهله، وكان يرد عليها شاعر الرسول حسان بن ثابت، فأمر الرسول بقتلها، وأغتيلت وهي ترضّع طفلها.
- أبو عفك اليهودي هو شاعر يهودي من بني عمرو بن عوف ثم بني عبيدة، وكان أبو عفك شيخا كبيرا قد بلغ مئة وعشرين سنة، وكان يحرض على رسول الله ويقول الشعر في ذمه، وكان قد نجم نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن الصامت.
- أبي رافع بن عبد الله: اغتيال أبي رافع بن عبد الله على يد سرية مكونة من عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة والأسود بن خزاعي ومسعود بن سنان نتيجة لتحريضه غطفان ومن حوله لحرب الرسول محمد.
- أم قرفة الفزارية هي فاطمة بنت ربيعة بن بدر بن عمرو الفزارية من قبيلة بني فرازة. تزوجت مالكاً بن حذيفة بن بدر، وولدت له ثلاثة عشر ولداً، وقيل ثلاثون ولداً، أكبرهم قرفة وبه كنُيت. وكان جميع أولادها من الرؤساء في قومهم. وكانت شاعرة من أعز العرب ممن يُضرب بهم المثل في العزة والمنعة فيقال:”أعز من أم قرفة”. وإذا تشاجرت قبيلتها مع غطفان بعثت خمارها على رمح فيصطلحون. وكانت تؤلب الناس على النبي محمد، فأرسل في السنة السادسة للهجرة زيداً بن حارثة في سرية فقتلها، إذ ربط رجيلها بحبل ثم ربطهما بين بعيرين حتى شقها شقاً، وكانت عجوزاً كبيرةً. ثم حُمل رأسها إلى المدينة لِيعلم أنها قتلت، وإن كان هناك من يضعف خبر التمثيل بها مع الإقرار بِقتلها لِكونها إمرأة مُقاتلة للمُسلمين ومُرتدة. وقيل أنها قبل ذلك كانت مسلمة فإرتدت في غزوة أحد.وهي والدة أم زمل المعروفة بأم قرفة الصغرى.
ومنهم هؤلاء الشعراء أيضا عبد الله بن الزبعري وهو أحد شعراء قريش المعدودين لكنه كان هجَّاءً فأكثر من هجو المسلمين وحرض عليهم كفار قريش، ثم أسلم فقُبل إسلامه، وتجد أخباره في الأغاني ١١ ج١٤.
ومنهم أيضا النابغة الجعدي وهو غير النابغة الذبياني، وهو من جعدة (قيس) مخضرم، قال الشعر في الجاهلية، وسكت دهرًا ثم نبغ في الإسلام. ويقال مع ذلك: إنه كان أسن من الذبياني. وهو ممن فكر في الجاهلية فأنكر الخمر والمسكر وهجر الأزلام والأوثان، وكان مغلبًا إذا هوجى غلب، وله مهاجاة مع ليلى الأخيلية وغيرها، ويقول علماء الشعر في وصف شعره: «خمار بواف ومطرف بآلاف» يريدون أن بين أشعاره تفاوتًا كبيرًا، ومن قوله في وصف الفرس:
كأن مقطَّ شَراسيفه إلى طرف القَتْب فالمَنْقبِ
لُطِمْنَ بتُرْس شديد الصِّقا ل من خَشب الجوز لم يُثْقَب
وله قصيدة جمعها أبو زيد مع المشوبات في جمهرة أشعار العرب، يصف بها حاله منذ كان عند المنذر، وكيف سار إلى الرسول وأسلم، ووصف ناقته وفرسه وبعض المواقع وغير ذلك مطلعها:
خليليَّ عوجا ساعةً وتهجَّرا ولوما على ما أحدث الدهر أو ذَرَا
وللنابغة الجعدي أخبار متفرقة في الأغاني ١٢٨ ج٤، والشعر والشعراء ١٥٨، وجمهرة أشعار العرب ١٤٥، وفي خزانة الأدب ٥١٢ ج١
وبعد هذه الاغتيالات لهؤلاء الشعراء في المدينة وتهديد الشعراء الاخرين في غيرها من القرى والقبائل بدأ الخوف يدب في قلوب هؤلاء الشعراء الذين كانوا ينظمون قصائد تتحدى القرآن والرسول وأخذ الخوف يملأ قلوبهم من القتل وكان منهم الشاعر الكبير كعب بن زهير (توفي سنة ٢٤ﻫ) وهو كعب بن زهير بن أبي سلمى، ولكعب ذكر خاص عند ظهور الإسلام؛ لأنه من المخضرمين، وكان هجا الرسول فأكثر من قصائد الهجاء له وخاصة بعد أن أسلم أخوه وكان يقول لاخيه ماذا أعجبك فيما يقول محمد ونحن بيت شعراء نقول ما هو خير منه فابوك شاعر كبير (زهير بن أبي سلمى) وأخوك شاعر كبير وأنت شاعر أيضا، إلا ان اخوه بجير بن ابي سلمى أرسل له رسالة عبارة عن أبيات شعر يخبره فيها عن أن الرسول قرر قتله وقتل جميع الشعراء الذين يهجون الرسول وكان ذلك بعد أن انصرف الرسول من فتح الطائف ومن هؤلاء الشعراء: أمية بن خلف، وابن الزبعري، وكعب بن زهير، فبعث بجير إليه أن خذ حذرك وانج إلى نجائك من الأرض، فإنه قد همَّ بقتل من كان يؤذيه من شعره، إلاّ أن تأتيه مسلماً تائباً، فأتى كعب مزينة فأبت أن تؤويه، وأقبل حتَّى أتى المدينة، فنزل على ابو بكر الصديق وكانت بينه وبينه معرفة، فقال له ابو بكر قل قصيدة في مدح الرسول واخذه للرسول فقال رجل من الاعراب يريد ان يمدحك بقصيدة فرحب الرسولّ فقام كعب بن زهير وأنشده.
بانت سعاد فقلبي اليوم مَتبُول مُتَيَّمٌ عندها لم يُجْزَ مَكْبُولُ
وهي من المشوبات أنشده إياها والمجلس حافل بالصحابة من قريش وغيرهم، فلما وصل إلى قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به مُهَنَّدٌ من سيوف الله مَسْلُولُ
في فتيةٍ من قريش قال قائلهم بِبَطْنِ مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشف عند اللقاء ولا خُورٌ معازيلُ
أشار الرسول إلى الناس أن يسمعوا شعر ابن زهير، ولما فرغ من الإنشاد خلع الرسول عليه بردته وهي التي تداول الخلفاء لبسها.
غير ان كعب بن زهير توقف عن كتابة الشعر وأنعزل بعيدا في نجد بعد إسلامه ولم يروى عنه اية قصائد بعد الاسلام غير قصيدة بانت سعاد الى ان مات.
حوادث الاغتيالات السابق ذكرها انتشرت في الجزيرة العربية وبين القبائل انتشار النار في الهشيم فعلم الشعراء أن لا مهرب لهم من الايمان بالرسول أو القتل ومن هؤلاء الشعراء الكبار ايضا معن بن أوس (توفي سنة ٢٩ﻫ) وهو معن بن أوس بن نصر من مزينة (مضر) شاعر مجيد فحل من المخضرمين وله مدائح في جماعة من الصحابة، ووفد على عمر بن الخطاب مستعينًا به على أمره وخاطبه بقصيدته التي أولها:
تأوَّبه طيْفٌ بذات الجراثمِ فنام رفيقاه وليس بنائمِ
ويقال: إنه لقي معاوية أيضًا، وكان معاوية يفضل مزينة في الشعر ويقول: «كان أشعر أهل الجاهلية منهم وهو زهير» وأشعر أهل الإسلام منهم، وهما ابنه كعب ومعن بن أوس، وكان معن مئنانًا، يحسن صحبة بناته وتربيتهن، ومن شعره قوله:
وذي رحمٍ قلمتُ أظفار ضِغنِه بحلمي عنه وهو ليس له حِلْمُ
إذا سُمتُه وَصْل القرابة سامني قطيعتَها تلك السفاهةُ والظلم
فأسعى لكي أبني ويهدم صالحي وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
يحاول رَغمي لا يحاول غيره وكالموت عندي أن يحلَّ به رغمُ
فما زلت في لينٍ له وتعطُّفٍ عليه كما تحنو على الولد الأمُّ
لأستلَّ منه الضِّغن حتى سللته وإن كان ذا ضغنٍ يضيق به الحلمُ
وله ديوان مطبوع في ليبسك سنة ١٩٠٣، وأخباره في الأغاني ١٦٤ ج١٠، وخزانة الأدب ٢٥٨ ج٣.
ومنهم ايضا الشاعر عبد الرحمن بن الحكم وهو أخو مروان بن الحكم الذي تولى الخلافة في الدولة الأموية، وأفضت بعده إلى أولاده وأحفاده، وكان عبد الرحمن هذا يهاجي عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، الأول يدافع عن قريش وبني أمية، والثاني عن الأنصار، وقد هجا ابن الحكم أخاه الحارث لأنه ذهب في غزوة ولم يفلح، فقال فيه أبياتًا منها:
كفاك الغزوَ إذا أحجمتَ عنه حديثُ السنِّ مقتبلُ الشباب
فليتك حَبْضةٌ ذهبتْ ضلالًا وليتك عند منقطع السحابِ
وهجا أخاه مروان، فضلًا عن هجوه الأنصار وغيرهم.
وتجد أخباره في ذلك مدونة في الأغاني ٧٢ ج١٢، و١٥٠ ج١٣.
ومن هؤلاء الشعراء أيضا لبيد بن ربيعة (توفي سنة ٦٦٢م) وهو لبيد بن ربيعة العامري (من قيس) وكان من أشراف الشعراء المجيدين والفرسان المعمرين، يقال: إنه عَمَّرَ ١٤٥ سنة عاش معظمها في الجاهلية، وقد أدرك الإسلام وأسلم وهاجر وحسن إسلامه ونزل الكوفة أيام عمر بن الخطاب، فأقام بها حتى مات في أوائل خلافة معاوية، فكان عمره ١٤٥ سنة منها ٩٠ في الجاهلية، وكانت الشاعرية ظاهرة في عينيه منذ صباه … ذكروا أن النابغة رآه وهو غلام جاء مع أعمامه إلى النعمان بن المنذر فتوسم فيه الشاعرية، فسأل عنه فنسبوه، فقال له: «يا غلام إن عينيك لعينا شاعر، أفتقرض من الشعر شيئًا؟» قال: «نعم يا عم» قال: «فأنشدني» فأنشده قوله: «ألم ترجع على الدمن الخوالي إلخ» فقال له: «يا غلام أنت أشعر بني عامر زدني» فأنشده قوله: «طلل لخولة في الرسيس قديم»، فضرب بيده على جبينه، وقال: «اذهب فأنت أشعر قيس كلها».
وأكثر شعره في الجاهلية؛ لأن الخلفاء الراشدين شغلوا الناس عن الشعر بالقرآن والحروب وكذلك النهي الواضح عن الشعر، وذكروا أن عمر بن الخطاب بعث إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يقول له: «استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام»، فأرسل إلى الأغلب الراجز العجلي، فقال له أنشدني، فقال: أرجزًا تريد أم قصيدًا لقد طلبتَ هينًا موجودًا
ثم أرسل إلى لبيد، فقال: «أنشدني ما قلته في الإسلام، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها وقال: أبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر» فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد.
ومن هؤلاء الشعراء الكبار أيضا قيس بن عاصم وهو من تميم ويكنَّى أبا علي، وهو شاعر فارس شجاع حكيم كثير الغارات مظفر في غزواته، أدرك الجاهلية والإسلام وساد فيهما، وهو أحد من وأد بناته في الجاهلية، وله حديث عن إحدى بناته يؤثر في النفس وكان مشهورًا بالكرم لا يستطيع الأكل وحده، ومن نظمه في ذلك قوله وقد جاءته امرأته بالطعام:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ويا ابنة ذي البُرْدين والفرس الورد
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له أكيلًا فإني لست آكله وحدي
أخًا طارقًا أو جارَ بيتٍ فإنني أخاف ملاماتِ الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضَّيف من غير ذلة وما بيَ إلا تلك من شِيَمِ العبد
وعنه يروون وصية أوصى بها أولاده، ضرب لهم فيها مَثل الاتحاد بالرماح إذا ضُمت معًا يعسر كسرها وإذا تفرقت كُسرت.
ومنهم أيضا أبو محجن الثقفي (توفي سنة ٦٥٠م) وهو فارس شجاع يُنسب إلى ثقيف، وكان مولعًا بالشراب، وقد أدرك الإسلام فهو مخضرم، وحبسه سعد بن أبي وقاص لشرب الخمر، واتفق بعد قليل أن المسلمين أصابهم جهد في القادسية، وكان عند أم ولد لسعد المذكور، فهاجت حماسته ونظم هذه الأبيات:
كفَى حزنًا أن تُطْعَنَ الخيلُ بالقنا وأترَكَ مشدودًا عليَّ وثاقيا
إذا قمت عَنَّاني الحديد وغُلِّقت مغاليقُ من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا أهلٍ كثير وإخوة فقد تركوني واحدًا لا أخا لِيا
هلم سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ثم احتالت أم ولد سعد المذكور في اطلاق سراحه، ومن قوله في حب الخمر:
إذا مت فادفني إلى جَنْبِ كَرمةٍ تروِّي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ولأبي محجن ديوان شعر مطبوع في لندن سنة ١٨٨٧، ومنه نسخة خطية في دار الكتب المصرية، وأخباره متفرقة في الشعر والشعراء ٢٥١، وخزانة الأدب ٥٥٣ ج٣، وفي الأغاني وغيره.
ومن هؤلاء ايضا الشاعر الأغلب العجلي (توفي سنة ٦٤٣م) وهو الأغلب بن عمرو من جشم من بني عجل من ربيعة، وهو أحد المعمرين في الجاهلية، وأدرك الإسلام وأسلم، وكان في جملة من توجه إلى الكوفة مع سعد بن أبي وقاص، ومات في واقعة لها وُلد سنة ٢١ﻫ، وهو أول من رجز الأراجيز الطوال … فقد كان العرب ينشدون الرجز في الحرب والحداء والمفاخرة فيأتون منه بأبيات يسيرة، ثم جاء الأغلب فكان أول من قصد الرجز وأطاله ثم سلك الناس طريقته، والإسلام لم يمنعه من النظم كما منع لبيدًا، وقد تقدم خبر ذلك في ترجمة لبيد، ولم نقف له على شعر أو خبر غير ما في الأغاني ١٦٤ ج١٨، والشعر والشعراء ٣٨٩، وخزانة الأدب ٣٣٣ ج١.
ومنهم أيضا الشاعر الكبير زيد الخيل هو زيد بن مهلهل من طي، وكان رجلًا جسيمًا طويلًا جميلًا فارسًا مغوارًا مظفرًا شجاعًا بعيد الصيت في الجاهلية، وأدرك الإسلام وَوَفَد على النبي … فسُرَّ به ولَقَبَهُ وقرظه وسماه زيد الخير، وهو شاعر مقل لأنه إنما كان يقول الشعر في مفاخراته ومغازيه وأياديه عند من مر عليه وأحسن في قراه إليه، وقد سمي زيد الخيل لكثرة خيله يوم لم يكن لسواه من العرب إلا الفرس والفرسان، فكانت له خيل كثيرة … منها المسماة المعروفة التي ذكرها في شعره وهي ستة: الهطال، والكميت، والورد، وكامل، ودوول، ولاحق، وله في كل منها شعر وكان له ثلاثة بنين كلهم شاعر، وأكثر أشعاره في الحماسة والفخر وذكر المواقع والطعن والضرب كقوله:
إنا لنكثر في قيسٍ وقائعنا وفي تميمٍ وهذا الحيِّ من أسَد
وعامرُ بن طفيل قد نحوت له صَدْر القناة بماضي الحدِّ مطَّرد
لما أحسَّ بأن الوَرْدَ مدركه وصارمًا وربيط الجأش ذا لِبَدِ
نادى إليَّ بسِلْمٍ بعد ما أخذت منه المنية بالحَيْزوم واللَّغُدِ
ولو تصبَّر لي حتى أخالطه أسْعرته طعنةً كالنار بالزنَدِ
وجرت بينه وبين بعض القبائل معركة أُسر فيها الحطيئة الشاعر فحبسه وضيق عليه، وقال في ذلك:
أقول لعبدي جرولٍ إذ أسرته أثِبْني ولا يغررك أنك شاعرُ
أنا الفارس الحامي الحقيقة والذي له المكرمات واللُّهي والمآثر
وقومي رءوس الناس والرأس قائد إذا الحرب شَبَّتها الأكفُّ المساعر
ولا نعرف لزيد الخيل ديوانًا مجموعًا ولكن أخباره منثورة في الأغاني ٤٧ ج١٦، والشعر والشعراء ١٥٦، والدميري ٢٠١ ج١، وخزانة الأدب ٤٨٨ ج٢.
ومنهم الشاعر الكبير عمرو بن معدي كرب (توفي سنة ٦٤٣م) وهو من زبيد من مذحج (كهلان) فارس من فرسان اليمن أو هو فارس اليمن ويقدمونه على زيد الخيل في البأس، وقد أدرك الإسلام وأسلم وجاهد حتى مات في آخر خلافة عمر بن الخطاب، وهو ممن يصدق عن نفسه في شعره فلا يفاخر بالمحال، ومن ذلك قوله:
ولقد أجمع رجلِّي بها حذَر الموت وإني لفَرورُ
ولقد أعطفها كاوهة حين للنفس من الموت هَرِيرُ
كل ما ذلك مني خلق وبكلٍّ أنا في الروع جدير
ومن أشعاره الذاهبة مذهب الأمثال قوله:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وصله بالزَّماعِ فكلُّ أمر سما لك أو سموتَ له ولوع
وأخباره في الأغاني ٢٥ ج١٤، والشعر والشعراء ٢١٩، وخزانة الأدب ٤٢٥ ج١، والمستطرف ١٧٩ ج١.
ومنهم أيضا الشاعرة الخنساء (توفيت سنة ٦٤٦م) وهي تماضر بنت عمرو بن الشريد من سراة سليم (قيس) من أهل نجد، وقد أجمع رواة الشعر على أنه لم تقم امرأة في العرب قبلها ولا بعدها أشعر منها، وقد أنشدت شعرها النابغة في عكاظ، فأعجب به وقال لها: «لولا أن هذا الأعمى أنشدني قبلك (يعني الأعشى) لفضلتك على شعراء هذا الموسم» على أن أكثر قولها في رثاء أخيها صخر، وكان قد قُتل في واقعة يوم الكلاب من أيام العرب ودُفن في أرض سليم … فأخذت تنظم فيه المراثي كأن الحزن أثار شاعريتها، وقد أدركت الخنساء الإسلام وهي عجوز ولها أربعة أولاد، فشهدت حرب القادسية وحرضت أولادها على الثبات في القتال، فلما حمي الوطيس تقدموا واحدًا واحدًا ينشدون الرجز يذكرون فيه وصية والدتهم حتى قُتلوا عن آخرهم، فلما بلغها الخبر، قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم».
ومنهم الشاعر الحطيئة وهو جرول بن أوس من بني عبس من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم، متين الشعر شرود القافية متصرف في جميع الفنون من المديح والهجاء والفخر والنسب، مجيد في ذلك كله، ولكنه كان ذا شر وسفه، دنيء النفس لا رأي له، وإنما يساق إلى ما يرجو منه مصلحة فينتمي إلى كل واحدة من القبائل إذا غضب من غيرها، فإذا غصب من بني عبس، قال: إنه من بني ذهل والعكس بالعكس، لكنه كان شديد الهجاء يخاف العرب لسانه ويسترضونه بالمال خوفًا من شره، وكان يتعمد تخويف الناس بالهجو؛ استدرارًا لأموالهم بما يعبر عنه الإفرنج اليوم بقولهم chantage وذلك نادر في طباع أهل الجاهلية.
وكان إذا نزل مدينة أو نجعًا دب الخوف في أهله، وأرصدوا له العطايا؛ خوفًا من لسانه، وهو يبالغ في الطمع كثيرًا … ذكروا أنه نزل المدينة مرة فمشى أشرافها بعضهم إلى بعض فقالوا: «قد قدم علينا هذا الرجل وهو شاعر والشاعر يظن فيحقق، وهو يأتي الرجل من أشرافكم يسأله فإن أعطاه جهد نفسه بهرها (فوق ما تستطيع) وإن حرمه هجاه» فأجمع رأيهم على أن يجعلوا له شيئًا معدًا يجمعونه بينهم … فكان أهل البيت من قريش والأنصار يجمعون له العشرة والعشرين والثلاثين من الدنانير حتى جمعوا له أربعمائة دينار وظنوا أنهم قد أغنوه فأتوه، فقالوا له: «هذه صلة آل فلان، وهذه صلة آل فلان، وهذه صلة آل فلان» فأخذها فظنوا أنهم قد كفوه عن المسألة، فإذا هو يوم الجمعة قد استقبل الإمام ماثلًا ينادي: «مَن يحملني على بغلين» … هكذا كان يفعل مع كل قوم ينزل فيهم وإلا سلقهم بهجوه.
وأكثر هجوه الذي وصل إلينا في الزبرقان وبغيض، وكان الزبرقان من عمال عمر بن الخطاب، وقد عرف شدة وطأة الحطيئة فأحب أن يقربه فدعاه إليه وأنزله في قومه، وضمن له مؤونة عياله على أن يستصفي له مدحه. وكان بغيض بن عامر من بني أنف الناقة وإخوته وأهله ينازعون الزبرقان الشرف، فاغتنموا استهانة أم شذرة أم الزبرقان مرة بالحطيئة ودعوه إليهم، وفي مقدمتهم بغيض هذا وعلقمة بن هوذة، فسار معهم وضربوا له قبة بكل طنب من أطنابها جلة (وعاء تمر) هجرية وأراحوا عليه إبلهم وأكثروا من التمر واللبن وبالغوا في إكرامه، فمدحهم بالبيت المشهور الذي رفع رءوسهم وهو:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوِّي بأنف الناقة الذَّنَبا
ثم جاء الزبرقان يطلب الحطيئة منهم؛ لأنه جاره فأبوا وتنازعوا، ثم اتفقوا على أن يخيروه في الذهاب إلى أحد الحيين فاختار بغيضًا، فرجع الزبرقان مغضبًا فحرض بغيض الحطيئة على هجوه ففعل. ومن قوله يهجو الزبرقان ويناضل عن بغيض:
والله ما معشر لاموا امرأً جنبًا في آل لأي بنِ شمَّاس بأكياسِ
ما كان ذنْبُ بغيض لا أبا لكم في بائسٍ جاء يحدو آخرَ الناس
وقد مدحتكم عمدًا لأرشدكم كيما يكون لكم مَتْحي وأمراسي
لما بدا لي منكم عيبُ أنفسكم ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعتُ يأسًا مبينًا من نوالُكم ولن يرى طاردًا للحُرِّ كالياس
جارٌ لقوم أطالوا هُونَ منزله وغادروه مقيمًا بين أرْماس
مَلُّوا قِراه وهَرَّته كلابهم وجَرَّحوه بأنيابٍ وأضراس
دَعِ المكارم لا ترحلْ لبُغْيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جَوازَيه لا يذهب العُرْفُ بين الله والناس
وشكاه الناس لعمر بن الخطاب فسجنه، فكتب إليه من السجن أبياتًا يشكو إليه حال أهله بسبب سجنه منها:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ حُمر الحَواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسِبَهم في قَعْر مظلمةٍ فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ثم أخرجه من السجن وهدده بقطع لسانه وأذنيه فتوسط له بعض الصحابة، فأطلقه وأوصاه أن يكف لسانه عن الهجو، وبلغ من شغف الحطيئة بالهجو أنه هجا أمه وأباه وهجا نفسه.
ونختتم هذا المقال بشاعر الرسول حسان بن ثابت (توفي سنة ٥٤ﻫ) وهو من الخزرج من أهل المدينة، وقد عاصر الجاهلية والإسلام … فهو من المخضرمين، واشتهر في الجاهلية بمدح ملوك غسان وملوك الحيرة، وله مع النابغة الذبياني أحاديث، واختُص بعد الإسلام بمدح النبي والدفاع عنه، وهو يعد أشعر أهل المدن في ذلك العصر، وكان شديد الهجاء حتى قيل: لو مزج البحر بشعره لمزجه. قال أبو عبيدة: «فضل حسان الشعراء بثلاثة: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي ﷺ في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام»، ومن شعره في الجاهلية قوله يمدح جبلة بن الأيهم الغساني:
أولاد جَفْنَةَ عند قبر أبيهمُ قبر ابنِ ماريَةَ الكريمِ المُفضِلِ
يَسْقون مَن وَردَ البَريصَ عليهم بَرَدَى يصفَّق بالرَّحيق السَّلْسَل
يُغشَوْن حتى ما تهِرُّ كلابهم لا يَسألون عن السواد المقبل
بيضُ الوجوه كريمةٌ أحسابهم شمُّ الأنوف من الطِّراز الأول
أكرمْ بقومٍ رسولُ الله قائدهم إذا تفرقتِ الأهواء والشِّيَعُ
وإنهم أفضلُ الأحياء كلهمِ إن جَدَّ بالناسِ جدُّ القول أو شَمعوا
وهو من أصحاب المذهبات ومطلع مذهبته:
لعمر أبيك الخيرِ حقًّا لما نَبَا علىَّ لساني في الخطوب ولا يدي
وقد جُمعت أشعاره في ديوان وطُبع في الهند وتونس، ثم طبعته لجنة تذكار جيب في إنجلترا سنة ١٩١٠، وضبطته على النسخ الخطية الموجودة في مكاتب لندن وبرلين وباريس وبطرسبورج بعد الاطلاع على النسخ المطبوعة المتقدم ذكرها.
وتجد أخباره في الشعر والشعراء ١٧٠، والأغاني ٢ ج٤، و١٦٩ ج٨، و١٦٩ ج١٠، و١٥٠ ج١٣، و٢ ج١٤، وخزانة الأدب ١١١ ج١، والجمهرة ١٢١، وفي السنة السادسة من الهلال ٤٨٢.