أبو عمر القروي يكتب: مقامات رمضانية .. طقوس رمضانية قديمة
بوابة الاقتصاد
* لم تكن الكهرباء قد دخلت معظم القرى إلا في بداية السبعينات ، و من ثم كان المؤذن في رمضان يحاول أن يرفع صوته حتى يصل لعدد كبير من الناس ، و إن كان هذا لا يتجاوز جيران المسجد ؛ أما بقية القرية فكانت لا تسمع شيئا ، بالذات قبل أن تأتي مكبرات الصوت التي كانت تعمل بالبطارية ؛ و لهذا كان الأولاد الصغار يتجمعون حول المسجد من بعد العصر ؛ انتظارا لأذان مغرب رمضان .
* و كل بيت كان يرسل طفلا سفيرا عنه أمام المسجد ، و يجتمع الأطفال حول المسجد يلعبون كل أنواع اللعب ؛ من الحجلة ، و الحكشة ، و القال ، و الاستغماية ، و السيجة الثلاثية ؛ أما السبعاوبة كان يلعبها الكبار ، و بعضهم كان يصنع عَجَلا صغيرا من أغطية زجاجات الكاكولا و يربطه بأستيك ، و بعضهم كان يلعب الكورة الشراب في أماكن ضيقة للغاية ، أو يلعبون بزجاجة زيت فارغة ، كلهم كانوا يلعبون و يستمتعون ، ولكن كان الغرض من التواجد هو انتظار أذان المغرب ، فكل أفراد القرية لا يفطرون إلا بعد أن ينتهي مؤذن القرية ، و بعد أن يعود الأطفال لمنازلهم معلنين ذلك .
* و كانت إذاعة البرنامج العام لها برامج رمضانية ؛ فقبل الأذان بنصف ساعة كانت الناس تسمع قرآن المغرب ، تسمع القرآن يخرج من البيوت ؛ أو أمام الشوارع ، فكثير من الكبار يتجمعون على رءوس الشوارع يتحلّقون حول سماع القرآن ، كانوا يحفظون ترتيب المقرئين على مدار الأسبوع ، و كيف أن أول يوم في رمضان كان يبدأ بالشيخ محمد رفعت و بسورة الرحمن ، وعندما ينطلق مدفع الأفطار أو قبله بقليل ، يذهب الناس إلى بيوتهم .
* أما الأطفال فلا يبرحون المسجد إلا بعد سماع الأذان من المؤذن من فوق سطح المسجد ، وكان يؤدي الأذان في القرية بعض الرجال ؛ حيث كان صوتهم مقبولا ، و عندما ينتهي المقرئ من تلاوة القرآن ، كل الأطفال يتوقفون عن اللعب في انتظار اللحظة الحاسمة ، و ينظر الكل إلى أعلى المسجد ، و عندما يصعد المؤذن السلم ، و تظهر رأسه يهلل كل الأطفال ، و يرددون في فرح و سرور : (طلع أهه ، طلع أهه ) ، و عندما يصعد أعلى المسجد ، يتمشى في بطء على السطح في انتظار انطلاق مدفع الأفطار ، و يسمع أذان الإذاعة ، وأحيانا كان هناك من ينبهه أن المغرب أذن في الراديو ، فيرفع الأذان بصوته العذب ، و أحيانا كان يتباطأ عمدا ضغطا على أعصاب الأطفال المشرئبة رءوسهم إلى أعلى .
* و عندما يبدأ الأذان ينطلق الأطفال في جميع الاتجاهات ، و في جميع الشوارع مجموعات مجموعات مرددين ، ( افطري افطري يا صايمة عسل و سكر على الصواني و لحمة ضاني ) ، و ينطلق كل طفل إلى منزله ليأخذ مكانه على الطبلية ، وتبدأ الأسرة في الفطار بعد أن يكتمل عدد أفرادها ، الكل يأكل بشهية و سعادة على صوت الشيخ سيد النقشبندي بتواشيحه الساحرة و الرائعة .
* و غالبا كان إفطار أهل القرية من أكلات لا يعرفها الجيل الحالي ؛ مثل كراديش العدس ، و الخبيزة ، و العصيدة ، و سد الحنك ( حلاوة الدقيق ) ، و الجعضيض أو السريس ، و الجلاوين ، و الحميض ، و النفقة ( الفاكهة ) … إلخ ، و معظم الأكلات كان يطلق عليها : ( أكل قرديحي ) ، و يطلقه الناس الآن على ما لا إدام معه ، و لا تأنق فيه ، و لا إضافات ، ليس إلا الحد الأدنى من الطعام في أبسط صوره ، و لا غرابة ؛ فالقردحة في لغة العرب : الصبر على الذل !
* بعد الإفطار الكل يجري إلى المسجد لصلاة المغرب ، فلم يكن هناك رجل يصلي في المنزل إلا القليل ، الكل يذهب إلى المسجد في انتظار صلاة العشاء ، و بعد الانتهاء منها تبدأ صلاة التراويح ، و كانت صلاة خفيفة لا تتجاوز جميعها نصف ساعة على الأكثر ، و من هنا كان الجميع يصليها ، حيث كان بعض الأئمة يقرأ آية واحدة في الركعة ، و بعضهم كان يقسم الآية بحيث كان لا يقرأ إلا آية أو جزءا من الآية ؛ كأن يقرأ : ” و التين ” في الركعة الأولى ، : ” و الزيتون ” في الركعة الثانية ، و الناس فرحة بقصر الصلاة .
* و بعد التراويح يذهب الناس للمنازل ، يتسامرون قليلا ، و ينامون مبكرا ، حتى يأتي المسحراتي ، الذي كان يدق على كل باب ، و ينشد و يهلل ، فيستيقظون ، كل يعطيه من خيرات البيوت بنفس راضية ، و تحدث مشادة بين بعض الناس ، و المسحراتي في اليوم التالي ، إذا لم يستيقظوا للسحور ، و بعد السحور يتوافد الناس إلى المساجد زرافات و وحدانا ، يحرصون على سماع التواشيح من راديو في المسجد قبل أذان الفجر ، و حبذا لو كان الموشح هو نصر الدين طوبار ، الذي كان يبكي الكثير من المستمعين .
* و بعد الصلاة يعود الناس للمنازل بعضهم ينام ، و كثير من الفلاحين يهرعون إلى الحقول للعمل مبكرا قبل الشمس بالذات في فصل الصيف .
* و تتكرر مشاهد الأيام ، و قرب نهاية رمضان ، و قبل عيد الفطر بأيام كان الأطفال يصعدون أعلى البيوت ، و يضربون علي الصفيح و يرددون : ( يا بركة رمضان ، متطلعيش من الدار ) ، و الكل يظهر الحزن على فراق رمضان ، ناهيك عن ليلة القدر ، و مظاهر الاحتفال بها ، و القصص التي تدور حولها من رؤية بعض العلامات التي تؤكدها .
* بالإضافة إلي إخراج الزكاة في رمضان ، و الاستعداد لاستقبال العيد بكل جديد و مظاهر احتفالية تدل على التواصل و التراحم و التقارب بين الناس ؛ حيث تتحول القرية إلى أسرة واحدة ، كل هذا ببركة رمضان شهر الخير ؛ شهر الله .