د. عادل محمد عبدالقادر يكتب: الصوم وغض البصر
بوابة الاقتصاد
الصيام مدرسة، فلابد في الصوم من كف البصر عن النظر، إلى كل ما نهى الله عنه، قال القرطبي: “البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله”.غاية الصوم ‘لعلكم تتقون، غض البصر عن المحرمات : فلا ينظر إلى النساء الأجنبيات ، قال تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ }{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } . . وذلك لأن في هذا النظر انتهاك لحرمات الآخرين ، كما أنه ذريعة للزنا . قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعاً. وروى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) حسن لغيره.
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم : “النظرةُ سهمٌ مسمومٌ مِن سهامِ إبليسَ” فإنَّ السهم شأنه أن يسري في القلب؛ فيعمل فيه عمل السم الذي يُسقاه المسموم، فإنْ بادر استفرغه؛ وإلا قتله ولا بد..! .
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإنْ لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمَى في الحشيش اليابس؛ فإنْ لم تحرقه كله أحرقت بعضه، كما قيل:
كلُّ الحوادثِ مَبدأُها مِنَ النظرِ* * * ومُعظَمُ النارِ مِن مُستصغَرِ الشَّرَرِ
كم نظـرةٍ فَتَكَتْ في قلبِ صاحبِـهـا* * * فَتْكَ السهامِ بلا قَـوْسٍ ولا وَتَـرِ
والمرءُ مـا دامَ ذا عَيْـنٍ يُقَـلِّبُها * * * في أعْيُنِ الغِـيدِ مَوقوفٌ على الخَطَرِ
يَـسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَـرَّ مُهْجَـتَهُ* * * لا مَرحبًا بسرورٍ عادَ بالضَّررِ
عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ثلاثةٌ لا ترى أعينُهم النارَ: عينٌ حَرَسَت في سبيلِ اللهِ، وعينٌ بَكَت مِن خشيةِ اللهِ، وعينٌ كَفَّت عن مَحارمِ اللهِ”. [رواه الطبراني ورواته ثقات، وقال الألباني: حسن لغيره]وفي غض البصر عدة منافع؛ منها:
- أنه يورث القلب أنسًا بالله؛ فإن إطلاق البصر يفرق القلب، ويشتته، ويبعده من الله، ويورث الوحشة بين العبد وربه.
يقول أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار محلاً للقاذورات؛ فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه، والأنس والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك. - أنه يُلبِس القلب نورًا، كما أن إطلاقه يُلبسه ظُلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى آية النور عقيب الأمر بغض البصر، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور: 30]، ثم قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاح) [النور: 35] أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن؛ الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
- أنه يورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، و الصادق والكاذب. كان “شجاع الكرماني” يقول: مَن عمَّر ظاهره باتباع السنه، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال؛ لم تخطئ لـه فراسة. وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة.
ومَن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فإذا غض العبد بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضًا عن حبس بصـره لله، ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة. - أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بها. وإطلاق البصر ينسيه ذلك، ويحول بينه وبينه؛ فينفرط عليه أمره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه.
سئل أحد المعاصرين لـ”عتبة الغلام : أتعرف أحدًا يمشي في الطريق مشتغلاً بنفسه؟ قال: ما أعرف إلا رجلاً؛ الساعة يدخل عليكم. فلما دخل عتبة؛ وطريقه على السوق، قال: يا عتبة! مَن تَلَقَّـاك في الطريق؟ قال: ما قابلتُ أحدًا..!.
وكان الربيع بن خثيم من شدة غضه لبصره وإطراقه؛ يظن بعض الناس أنه أعمى! .
وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود رضي الله عنه عشرين سنة، فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود: صديقك الأعمى قد جاء! فكان ابن مسعود رضي الله عنه يضحك من قولها. وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا نظر إليه يقول: وبشِّر المخبتين.. أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم لفرح بك.
والمؤمن مأمور بغض بصره عما حرم الله عليه في الأحوال والأزمان كافة، ويكون الأمر آكد في شهر رمضان؛ إذ هو شهر العبادة، وشهر التقرب إلى الله سبحانه، فلا يليق بالمؤمن أن يفعل في هذا الشهر ما يبعده عن ربه، وهو أحوج ما يكون قريباً إليه.
د- عادل محمد عبدالقادر – جامعة السلطان عبدالحليم معظم شاه الإسلامية العالمية unishams