آخر الاخباراقرأ لهؤلاءمنوعات

السيد حسن يكتب: وجوه من قريتي .. الدكتور المهندس علي السيد فرج خبير جولوجيا النفط والغاز

بوابة الاقتصاد

يوميات / السيد حسن

( وجوه من قريتي ) .. ( كفر الشيخ علي)

الدكتور المهندس / علي السيد فرج (خبير جولوجيا النفط والغاز )

.. مشيناها خطى ..

إحساس بالراحة يأخذك بعمق إلى وادي الذكريات البعيدة .. أفراد وأشخاص عاشوا معك .. بجانبك .. أمامك .. خلفك .. كانوا معك في الحدث وفي إطار الصورة ..بل كانوا ذات يوم هم الصورة ذاتها .. بجوارها .. وخلفها .. وأمامها .. كانوا دائماً يطلون عليك وتطل عليهم .. كانوا في القلب .. وعلى هامش القلب .. وبعيداً عنه سكنوا واستقروا .. ولكن هم في نهاية المشهد جزءٌ منه لا محالة .

حسن
حسن

كنا فقراء .. نعم .. والفقر ليس عيباً .. ولكن العيب أن تقبله وتستكين له .. فإذا حاولت جاهداً أن تقهره مراتٍ ومرات ولم تفلح في مسعاك .. فأقنع بما أنت فيه وكن راضياً بحياتك ولا تنفر منها ولا تكيل لها السباب .. فهذا يعد تعدياً وقحاً على ما كتبه الله لك من رزق الدنيا .. وأعلم أن رزقك آنذاك هو المقسوم لك .. وربما يضاعفه الله لك أضعافاً مضاعفة فيما بعد جزاء صبرك .

وقد حاولنا كثيراً في بواكير حياتنا أن نخرج من قمقم الفقر الخانق .. شأننا في ذلك شأن من سبقنا في ذلك .. وكنا ننال بعضاً من المسكنات البسيطة جداً لنداوي بها مرض الفقر العضال .. وكنا إذا ما انتهت الدراسة وبدأت العطلة الصيفية .. حتى نبدأ في الترحال والتجوال في ربوع مصرنا المحروسة هناك داخل القاهرة .. بحثاً عن كلأ العيش ومسكنات الفقر المتفشي في مجتمعاتنا البسيطة ، ولكن ليس من العيب أن تحلم وأن تسعى لتحقيق احلامك بكل الطرق والسبل المشروعة .

وكان صديقي علي السيد فرج حماد أبرز الشباب في تعاطي تلك المسكنات خلال العطلة الصيفية .. فقد دأب هذا الشاب وهو في مقتبل عمره في البحث عن ثغرةٍ في مَخِيط يطل منها على عالم الأثرياء أو بحبوحة العيش التي لا يمسها ترف ولا يجور عليها غناء فاحش .. فقط ينظر الي الاثرياء ليراقب ما يفعلون وما يسلكون .. وإن كان حبه ليس للأثرياء أو للغنى في حد ذاته .. ولكن ما يترتب على الغنى من الاستقرار الأسري الذي ينشده طوال حياته ..

وكان صديقي علي فرج به مسحة من الوسامة .. يعززها ذوقه العالي في اختيار ملابسه وأحذيته الشيك .. ولذا فقد اختار الشاب الطموح عالم الفنادق الخمس نجوم للعمل بها .. وإذا تعثر حظه بها فلم يعثر على تلك الفرصة في تلك الإجازة الصيفية .. ذهب مرغماً إلى عالم أخر قريب منه .. وإن كان ثمة رابط بين المكانين أن رواده من غير شك من بين الطبقة العليا من الأثرياء في مصر.

وكنا نلتقي بين الفينة والأخرى هناك في القاهرة .. وكان ذلك في منتصف الثمانينيات .. وكنا نسكن في أخر شارع فيصل .. ونذهب إلى الأهرامات وكان الشاب مولعاً بعالم الجيولوجيا .. فكنا نطوف حول الأهرامات طوافنا حول الكعبة المشرفة .. لندقق في أحجار الأهرامات .. فهذا الحجر من الجرانيت وذاك من البازلت وثالث من أحجار الجابرو ورابع من الأحجار الجيرية وهكذا ..

وكان علي متيماً بالجيولوجيا وعالمها الفسيح .. بينما كنت أنا متيماً بالأدب والشعر والرحلات والتاريخ وما إلى ذلك .

وكان صديقي ليس بالبعيد عن ذلك أيضاً فهو متذوق لها مثلي .. فضلاً عن كونه فناناً مولعا بالرسم .. وقد كسبناه كباحث وعالم في مجال الجيولوجيا وخاصة جيولوجيا التنقيب عن النفط والغاز وله إبداعات ومساهمات دولية في ذلك المجال .. وإن كنا خسرناه كثيرا في مجال الرسم بالريشة .

وكان من الطبيعي أن يحب الطبيعة ومدرستها العريقة في مصر وأوروبا .. وغالباً ما كان يجلس ليترجم ما يجول بخاطره مع تلك الطبيعة الخلابة هناك في طبيعة كفر الشيخ علي .. وكان له لوحة شهيرة قد رسمها بريشته المبدعة ونحن في الجامعة .. وقد منحها لي هدية .. واحتفظت بها طويلا في مقتنياتي الشخصية .. ثم رأيت أنه ليس من المنطق أن أترك تلك اللوحة الجميلة وأحجبها عن الأنظار فتلك هي الأنانية بعينها ..

قمت وأخرجت اللوحة وأمسكت بها الجدار المتهالك فاستحسن صنيعي له ووقف هادئاً يتطلع إلى اللوحة بإعجاب شديد .. وبقى الجدار على حالته لسنوات يتطلع للوحة ومستكين غاية الاستكانة .. وبقيت اللوحة على حالتها في صداقة حميمة ومتبادلة بين الاثنين .. إلى أن نشب حريق في بيتنا فأتى على الجميع وضاعت لوحتي التي حزنت عليها كثيرا .. فقد كانت تمثل ردحا من الزمن الجميل مر بحياتنا مختالاً فخوراً بما كنا نملك من مشاعر فياضة .

ويتناقض علي فرج تناقضاً كبيرا بين ما يملك في صدره من مواهب فنية مكبوتة وتخصصاً بعيدا كل البعد عن تلك المشاعر الفنية .. وقد ذهب عقب الثانوية العامة مباشرة إلى كلية العلوم قسم الجيولوجيا .. وكنت أخاله سيذهب إلى الزمالك أو حلوان حيث توجد بهما كليتا الفنون الجميلة .. وهذا كان التصرف الطبيعي لنا كأصدقاء نعرف الشاب ومواهبه .. ولكنه يفاجئ الجميع بدراسة علم طبقات الأرض .. وكان اختيارا عجيبا بالنسبة لي .. فهذا فنان ذو حسٍ شاعري .. وذاك هو الصخر ودراسة الصخور وما شابه ذلك .. وتعودنا دائماً أن نطلق على الشخص الذي لا يشعر ولا يحس بأن قلبه كالصخر أو الحجر .. وكل حياة صديقنا نعرفها جيدا فهي بعيدة عن التبلد والقسوة .. وإنما مشاعره راقية طبيعية غاية في الرقة غاية في الإنسانية .. وقد عهدته في مواقف شديدة الإنسانية يبكي وكنت أبكي معه .

ولكن على ما يبدو أن المشاعر شيء والتخصص شيء أخر تماماً.. ولدينا في عالم الأدب والشعر دلائل تؤكد ذلك .. الشاعر إبراهيم ناجي مثلاً كان طبيبا يرى ويتعايش مع صور الدم في عملياته اليومية .. بينما هو شاعر رقيق بكل ما تملكه الكلمة من معنى وانتصر الشعرعلى الطب في النهاية .

الشاعر مرسي جميل عزيز صاحب أغاني الفنانة شادية كان يعمل فكهاني وكان له محلاً للفاكهة في الزقازيق .. وقد أثرت تلك المهنة على أشعاره من الناحية الحسابية .. فهو صاحب أغنية 5×6 بتلاتين يوم لشادية .. وأغنية في يوم في شهر في سنة لعبد الحليم .

علي فرج ولد في أسرة كريمة بكفر الشيخ علي بالصانية .. والده رجل كريم مضياف مجامل محب للجميع .. وكان عندما يرانا يرحب بنا أشد ترحيب .. حيث كنت أنا وصديقي رجب السيد عيسى دائمي الزيارة لصديقنا وكان لنا صديق ثالث هو أشرف متولي صديق عامر .

أما والدة علي السيد فرج فهي من عائلة كريمة الطبع متدينة .. وأحسبها مثل المرحومة أمي ..وقد كنت أعامل أمهات أصدقائي كما لو كن مثل أمي تماماً .. وحتى هذه اللحظة من يعيشن منهن أحترمهن وأوقرهن توقيراً كبيراً وأم علي من بينهن دون شك .

وبدأت صداقتي مع علي في المرحلة الابتدائية في مدرسة ناصر الابتدائية .. ثم تطورت في المرحلة الإعدادية .. ثم أصبحت صداقة نوعية قائمة على ركائز مشتركة في المرحلتين الثانوية والجامعية .. حيث تتآلف القلوب بمواضيع ذات شأن مشترك ..

وعقب الجامعة كنا نلتقي في القاهرة حيث تنقلت لمدة 8 سنوات متصلة كصحفي متدرب وغير معيّن في صحف الجمهورية وأخبار اليوم ثم انتهيت بالأهرام العربي زمن أسامة سرايا وخيري رمضان ونصر القفاص والدكتور إدريس .. وكان على يعمل في استقبال أحد الفنادق الكبرى .. وفيها تعرف على أحد المدراء في مجال شركات التنقيب عن النفط .. وعلى عجلٍ ساقته الأرزاق للسفر إلى سوريا للعمل في تلك الشركة .. وبدأت رحلة أخونا المهندس علي فرج في مجال التنقيب عن النفط .. حيث تنقل من دولة لدولة ومن مكان إلى مكان ومن بئر إلى بئر .. وفي تلك الأثناء كان علي قد حصل على الماجستير ثم حصل على الدكتوراه قي عامين .. ويعمل على فرج حاليا خبيرا في تخصصه في احدى الشركات الأمريكية الكبرى بدبي والمتخصصة في التنقيب عن النفط .

لم يحلم الرجل ونام .. لم يتطلع إلى الأفق وهو مستلقي على ظهره يطالع النجوم .. لم يحاول تغيير واقعه الفقير وهو واقفاً عند عتبه التمني فقط .. بل خاض الصعاب .. وكد وعمل على مدار الساعة من أجل أن يكون الأفضل والأحسن .. ولم يكتف بذلك وإنما قام بإعداد نفسه علمياً ليتقدم لنيل الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة .

ليس بالتمني فقط يبني الناس مجدهم .. وإنما بالعرق والكفاح ثم بالعرق والكفاح .. ثم بالأخلاق والقرب من الله عز وجل وإن كانت تلك هي الأساس لأي تقدم في حياة أي إنسان مسلم .. وعدم نكران الجميل لمن أحسن لنا ذات يوم سواء من الأقرباء أو غيرهم .. لأن الاعتراف بفضل الأخرين فضيلة .. والاعتراف بفضل الله منتهى الفضيلة .

اليوم أكتب قصة علي فرج للشباب الذين هم لا زالوا في مرحلة تقرير المصير حتى يستفيدوا وحتى يعلموا جيدا أن طريق النجاح بحاجة إلى جهد وإخلاص .. وأن طريق النجاح بكل تأكيد به الكثير من الفشل.. وبالفشل ينهض الإنسان المليء بالعزيمة والصبر من كبوته ليحقق المزيد والمزيد من النجاح .. وليس عيبا أن نسعى لتغيير واقعنا الفقير والبائس .. ولكن العيب كل العيب أن نجلس مفترشين الأرض ناظرين إلى السماء طالبين أن تمطر علينا ذهبا على أن يكون عيار 24 .. منتهى الحماقة ومنتهى التهريج .. أن يكون شبابنا بهذه العقلية وتلك النفسية التعيسة .

السيد حسن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى