د. صلاح عبدالجابر: الصحابة الكبار وكيف جمعوا الثروات الضخمة .. الثروات التي تركها 5 من كبار الصحابة
بوابة الاقتصاد
عزيزي القاريء الكريم سوف تفاجيء في هذا المقال بالثروات الضخمة التي جمعها كبار الصحابة وتركوها لورثتهم بعد وفاتهم،فهل جمع هؤلاء الصحابة الكبار ثرواتهم بجهدهم وكدهم كباقي البشر أم ان غالبيتها العظمى كانت عبارة عن ثروات وهبها لهم الخلفاء والحكام في صدر الاسلام الاول، وهل كان الحكام يعطون عامة المسلمين مثل هذه العطايا والهبات والتي كانت تأتي من غزو بلاد الشام والعراق ومصر وفارس وغيرها، أم أن هذا الأمر كان مقتصرا على هؤلاء النر القليل من الصحابة وهو نفس الفعل الذي تفعله الحكومات اليوم فهي تمنح من تشاء من الرجال المقربين عطايا ومنح وتمنع ذلك عن بقية الناس من الشعب.
عزيزي القاريء الكريم مما لا شك فيه أنه حين تقبل الدنيا دون حدود، فلا بد أن تُدبِر العقيدة ولو بقدر محدود، أما كيف أقبلت هذه، وكيف أدبرت تلك، فتعالَ معىعزيزي القاريء أخذك في جولة على ثروات خمسة من كبار الصحابة والتي تركوها عند وفاتهم وتأمل، وتدبر معى:
ثروات خمسة من كبار الصحابة أسماؤهم لوامع بل إن شئت الدقة أسماؤهم اللوامع، فهم جميعًا مبشرون بالجنة وهم من الستة الذين حصر فيهم عمر الخلافة، وأحدهم هو الخليفة المختار، وهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيدالله وعبدالرحمن بن عوف، ننقلها إليك من كتاب موثوق به هو “الطبقات الكبرى لابن سعد”.
يقول ابن سعد بسنده:
[كان لعثمان ابن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف (الألف ألف هى المليون) درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار (الدرهم عملة فارس والدينار عملة الروم) فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة وترك صدقات كان تصدق بها ببر أديس وخيبر ووادى القرى قيمة مئتى ألف دينار.
- كانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف. وكان للزبير بمصر خطط (عزب واراضي زراعية)وبالإسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة.
- عن عائشة بنت سعد ابن أبى وقاص: مات أبى (رحمه الله) فى قصره بالعتيق على عشرة أميال من المدينة، وترك يوم مات مئتى ألف وخمسين ألف درهم.
- كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيدالله من العقار والأموال وما ترك من الناض ثلاثين ألف درهم، ترك من العين ألفى ألف ومئتى ألف دينار، والباقى عروض.
- ترك عبدالرحمن بن عوف ألف بعير (البعير هو الجمل وثمنه الان اكثر من 40 الف جنيه) وثلاثة آلاف شاة بالبقيع (الشاه ثمنها الان اكثر من خمسة الاف) ومائة فرس ترعى بالبقيع(الفرس ثمنه الان اكثر من مائة الف) ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا، وكان فيما ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدى الرجال منه وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفًا].
وقد ذكر المسعودى تقديرات مقاربة لما سبق من ثروات مع اختلاف فى التفاصيل، واستند طه حسين فى كتابه الفتنة الكبرى لتقديرات ابن سعد، وذكر ابن كثير أن ثروة الزبير قد بلغت سبعة وخمسين مليونًا وأن أموال طلحة بلغت ألف درهم كل يوم(الف جنيه ذهبي كل يوم) .
ولعل القارئ قد تململ كثيرًا، وهو يستعرض ضخامة ما تركه كبار الصحابة من ثروات، ولعله انزعج كما انزعجنا لحديث الملايين ولعله أيضًا يتلمس مهربًا بتصور أن الدراهم والدنانير لم تكن ذات قيمة كبيرة فى عصرها، لكنى استأذنه أن يراجع نفسه.
فابن عوف توفى بعد عمر بن الخطاب بثمانى سنوات، والزبير وطلحة توفيا بعد عمر بثلاث عشرة سنة، وأقصى ما يفعله التضخم (بلغة عصرنا الحديث) فى تلك الفترة القصيرة، أن يهبط بقيمة النقد إلى النصف مثلاً، ويحكى المسعودى عن عمر أنه:
[حج فأنفق فى ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر دينارًا فقال لولده عبدالله: لقد أسرفنا فى نفقتنا فى سفرنا هذا]، وإذا كانت الستة عشر دينارًا قد كفت عمرًا وولده، أو كفت عمرًا وحده، شهرًا كاملاً، فلنا أن نتخيل ما تفعله عشرات الملايين، وما يملكه صاحب الذهب الذى يقصر جهد الرجال عن قطعة (بالفؤوس).
ولنا أن نسوق مثالاً أوضح من المثال السابق، عن سادس الستة الذين رشحهم عمر، ونقصد به عليًا، الذى توفى بعد طلحة والزبير بأربعة أعوام ونصف العام، وبعد ابن عوف بنحو عشرة أعوام، وهاكم ما تركه فى رواية المسعودى:
[لم يترك صفراء ولا بيضاء، إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه، أراد أن يشترى بها خادمًا لأهله، وقال بعضهم: ترك لأهله مئتين وخمسين درهمًا ومصحفه وسيفه].
عزيزي القاريء نحن هنا أمام نموذج ونماذج، ومثال وأمثلة، وتركة وتركات، وأمام مؤشر خطير لما حدث للمسلمين، من تلك العطايا التي كان عثمان بن عفان يعطيها لكبار رجال الدولة من الصحابة دونا عن بقية الناس، وأمام نذير خطير لما سيحدث لهم، فالدين والدنيا لا يجتمعان معًا إلا بشق الأنفس، وجمع المال على هذا النحو لا يستقيم مع نقاء الإيمان وصفاء السريرة إلا بجهد مجهد وجهيد، وقول الرسول عن ابن عوف أنه يدخل الجنة حبوًا يطرق الأذهان فى عنف، فغنى عبدالرحمن وثروته يثقلان خطوه إلى الجنة، ولا لوم ولا تثريب على المسلم إن أثرى كما يشاء، وأدى حق الله فى ماله كما يحب، لكن ميزان كبار الصحابة ليس كميزان غيرهم، فهم أثقل من غيرهم بالزهد، وأجدر من غيرهم بالخصاصة، وقد عهدناهم حين هاجروا من مكة قبل ذلك بسنوات لا يملكون غير ملابسهم، ويبيتون على الطوى سجدًا خاشعين، وكانوا فى الميزان أغنى الأغنياء، لكن الزمن قد دار إلى غير عودة، وما ضر المقبل على الثروة أن يقبل على الحكم، فهما وجهان لعملة واحدة هى الدنيا المقبلة، وسوف يأتى على خليفة بعد عثمان، وسوف يكون الخليفة الحق فى الزمان الخطأ، وسوف يحدث له ما حدث، لأنه لا بد أن يحدث، غاية ما فى الأمر أنه كانت هناك جذوة من العقيدة ما زالت مشتعلة، أبقت حكمه قرابة خمس سنوات، ولم يكن له أن يتساءل مستنكرًا: أُعصى ويطاع معاوية؟ فالتساؤل على مرارته مجاب عليه: نعم يا أبا الحسن، تُعصى لأنك على دين، ويطاع معاوية لأنه على دنيا، فكما تكونوا يولّ عليكم، وقد كان القوم أقرب إلى معاوية منك، ولم يكن لهم أن يصبروا عليك وأنت تحاول إدارة العجلة إلى الخلف، إلى الزمن السعيد والصحيح، فليس لها أن تدور إلا حيث تريد لها الرعية أن تدور، وإذا كان أصحابك قد أقبلوا على الدنيا هذا الإقبال، أتنكر أنت على الرعية أن تقبل هى الأخرى آخذة منها بنصيب، ساعية إلى من ييسر لها ما ترضاه، ويتألف قلوبها بما أنست إليه، وتألفت معه، وأقبلت عليه، وأدبرت أنت عنه.
هون عليك يا أبا الحسن، فسوف يأتى بعدك بسبعين عامًا من لا يستوعب درسك فيحاول ما حاولت، ويقضى بأسرع مما قضيت، سوف يأتى عمر بن عبدالعزيز، ولن يستمر أكثر من سنتين وثلاثة أشهر، وسوف يموت دون الأربعين، مسمومًا فى أرجح الأقوال مُخليًا مكانه ليزيد بن عبدالملك، شاعر المغانى والقيان، عاشق سلامة وجبابة، وأول شهداء العشق والغرام فى تاريخ الخلفاء.
وسوف يأتى بعد عمر بن عبدالعزيز بقرن ونصف قرن، خليفة عباسى اسمه المهتدى بالله يحاول أن يحتذى حذوه فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويزهد فى الدنيا، ويقرب العلماء، ويرفع من منازل الفقهاء، ويتهجد فى الليل، ويطيل الصلاة، ويلبس جبة من شعر وسوف يكون مصيره كما ذكر المسعودى: “فثقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة حتى قتلوه، ولما قبضوا عليه قالوا له أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟ فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول وأهل بيته والخلفاء الراشدين، فقيل له: إن الرسول كان مع قوم قد زهدوا فى الدنيا ورغبوا فى الآخرة كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وغيرهم، وأنت إنما رجالك تركى وخزرى ومغربى وغير ذلك من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم فى أمر آخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟”.
وقد قتل المهتدى بعد أقل من أحد عشر شهرًا من خلافته، واختلف فى قتله، فذكر البعض أنه قتل بالخناجر، وشرب القتلة من دمه حتى رووا منه، (ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات، ومنه من رأى أنه جعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات، وقتل خنقًا؟ كبس عليه بالبسط والوسائد حتى مات)، لا تحزن يا أبا الحسن ولا تغضب، فزمانك لا شك أعظم مِن زمن مَن يليك، وحسبك أن عهدك كان فيصلاً أو معبرًا إلى زمان جديد، لا ترتبط فيه الخلافة بالإسلام إلا بالاسم، ولا نتلمس فيه هذه الصلة بين الإسلام والخلافة، إلا كالبرق الخاطف، يومض عامين فى عهد عمر بن عبدالعزيز، وأحد عشر شهرًا فى عهد المهتدى وخلا ذلك دنيا وسلطان، وملك وطغيان، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال، وربما لم تخطر للقارئ على بال؛ ما نقلوه إليه كان ابتسارًا للحقيقة، وإهدارا للحقائق، وانتقاصًا من الحق.