آخر الاخباراتصالات و تكنولوجيااقرأ لهؤلاء

د.صلاح عبدالجابر يكتب: مراسلات الإمام علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس بعد سرقته أموال بيت مال البصرة

بوابة الاقتصاد

عزيزي القاريء دعني أقص عليك ما راعني وما سيروعك وما أفزعني وما سيفزعك، وسوف ننقله إليك موثقًا بالرسائل، تلك التى تداولها الامام علي بن ابي طالب وابن عمه وأقرب الناس إليه، عبدالله بن عباس، حبر الأمة وبحرها، وأحد أكثر من نقلت عنهم أحاديث الرسول، ووالي الامام علي بن ابي طالب على البصرة، أعظم الأمصار وأجلها خطرًا، ولعلك يا عزيزي القاريء الكريم كنت تتوقع أن تسمع عن عبدالله بن عباس أى شىء إلا ما ستسمعه الان، فحين أتى من صاحب بيت المال فى البصرة (أبو الأسود الدؤلى) رسالة يخبر فيها الامام علي أن (عامله وابن عمه قد أكل ما تحت يده بغير علمه).


ولعل الامام علي لم يصدق، ولعله لم يكن أمامه إلا أن يرسل لعبدالله بن عباس مستفسرًا، متمنيًا أن يحصحص الحق فيسفر عن بياض صفحته، وها هو خطابه إليه مختصرًا: “أما بعد، فقد بلغنى عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وأخربت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين: بلغنى أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلى حسابك واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس”.
ويأتي الرد من ابن عباس : “أما بعد، فإن الذى بلغك باطل، وأنا لما تحت يدى أضبط وأحفظ، فلا تصدق على الأظناء، رحمك الله، والسلام”.
رد كأنه إحدى رسائل التلكس فى أيامنا الحاضرة، وهو رد لا يغنى من جوع، ولا يسمن من شبع، فعلى قد طلب حساب بيت المال، فلم يظفر من ابن عباس إلا بنفى التهمة وبالسلام، وما عليه إلا أن يعاود الكرة، موضحًا ما يطلبه، مؤكدًا عليه، محاولاً استثارة النخوة الدينية لديه، ولنقرأ خطاب على:
“أما بعد، فإنه لا يسعنى تركك حتى تعلِمَنى ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت منه، فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام”.
لم يعد الأمر اتهاما ينفيه ابن عباس، بل طلبًا واضحًا ومحددًا، ومطلوب من ابن عباس أن يجيبه، وهو أن يكتب له (كشف حساب) يوضح فى جانب منه موارده من الجزية، وفى الجانب الآخر أوجه الإنفاق.
والحقيقة أن ابن عباس قد أجاب، وهو فى أجابته لم يذكر شيئًا عن موارده وإنفاقه، وإنما تقدم بالخصومة بينه وبين على خطوة واسعة، ورد عليه اتهاما باتهام، فعلى يتهمه باغتصاب المال، وهو يتهم عليًا بسفك دماء الأمة من أجل الملك والإمارة، وهكذا جريمة بجريمة، بل إن جريمة على (هكذا قال وهكذا أفتى) أعظم عند الله من جريمته التى لم ينفِها أو يعتذر عنها، ولنقرأ معًا رسالة عبدالله بن عباس إلى على (أما بعد، فقد فهمت تعظيمك على ما بلغك أنى رزأته أهل هذه البلاد، والله لأن ألقى الله بما فى بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها، أحب إلى من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة. فابعث إلى عملك من أحببت”.
استقالة أسبابها غير مقنعة، ضرب على عند قراءتها كفًا بكف، مرددًا:
“وابن عباس لم يشاركنا فى سفك هذه الدماء؟”.. ولو رمى ابن عباس باستقالته تلك واكتفى، لآخذناه على ما جاء فيها، ولبررناها بغضبه من اتهام ظالم وجسيم، أطلق منه نوازع الغضب وانفعالات الثورة، فكتب ما كتب تحت وطأة الغيظ وفى ظل انفعال من يتهم وهو برىء، لكنه فعل بعد كتابة هذا الخطاب ما لم يخطر لعلى على بال، وما لا يخطر للقارئ على بال، وما لا سبيل إلى نجاته من وزره أمام الله، وأمام على، وأمامنا جميعًا..
لقد جمع ما تبقى من أموال فى بيت المال، وقدره نحو ستة ملايين درهم، ودعا إليه من كان فى البصرة من أخواله من بنى هلال، وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه ففعلوا، وحاول أهل البصرة مقاومتهم وناوشوا بنى هلال قليلاً، ثم أقنعوا أنفسهم بترك المال عوضًا عن سفك الدماء، ومضى ابن عباس بالمال، آمنًا، محروسًا، قريرًا، هانئًا، حتى بلغ البيت الحرام فى مكة، فاستأمن به، وأوسع على نفسه، واشترى ثلاثة جوار مولدات حور بثلاثة آلاف دينار.
 
صدمة هائلة، لا لعلى فقط، بل لنا جميعًا، نحن الذين عشنا عمرنا نقرأ عن فقه العبادلة، وزهد العبادلة، وورع العبادلة، (يقصدون عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن جعفر بن أبى طالب وعبدالله بن عمرو بن العاص)، فإذا بنا نحار فهمًا، ونمسك ألسنتنا غصبًا أمام أشهر العبادلة، ونخشى أن نصف فعله بما يستحق فلا ننجو من الألسنة الحداد ومما هو أكثر، لكنا يجب أن لا نكون أرفق ببعض الصحابة من أنفسهم، ولا أقل من أن نصفهم بما وصف بعضهم به بعضًا، وحسبنا أن عليًا أوجز رأيه فى ابن عباس بأنه (يأكل حرامًا ويشرب حرامًا) وليس لنا إلا أن نقول مع على: صدقت إن صدق ما قلت وحدث ما فعل، بل إننا نتساءل ومعنا كل الحق، هل الاستيلاء على أموال المسلمين بالباطل حلال على مسلم لكونه عاصر الرسول أو الخلفاء أو الصحابة، حرام علينا لأننا جئنا فى عصر بعد العصر، وعاصرنا زمانًا غير الزمان؟، هى حرام عليهم بقدر ما هى حرام علينا، بل هى حرام عليهم أكثر، لأنهم يعرفون من الدين أكثر، ومتفقهون فيه أكثر، ولأنهم الأئمة والمنارة، فإذا فسد الأئمة فمن أين يأتى الصلاح؟، وإذا أظلمت المنارة فبمن نسترشد؟
ولعلى قبل أن أستطرد فى الحديث، وللحديث بقية، أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد، ممن اغتالوا الرئيس السادات فى المنصة، كان مشهورًا عنه أنه يكحل عينيه، وعندما سئل، قال تأسيًا بابن عباس، ولعله لو قرأ ما قرأناه عنه ما تأسى به وما اكتحل مثله، واقرأوا معى رسالة على لابن عباس، بعد أن استقر فى مكة، هانئًا بين جواريه، قانعًا بأموال المسلمين:
“أما بعد، فإنى كنت أشركتك فى أمانتى، ولم يكن فى أهل بيتى رجل أوثق منك فى نفسى لمواساتى ومؤازرتى وأداء الأمانة إلى. فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلطت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الهزيلة وظالعها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك لا أبًا لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله!!
أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حرامًا وتشرب حرامًا؟ أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله، وأدِّ أموال القوم فإنك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكننى الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده، وأقمع الظالم، وأنصف المظلوم، والسلام”.
خطاب يقطر دمًا، ولو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع وتاب، ورجع عن فعله وأناب، لكنه يرد مستخفًا فى سطرين لا أكثر فيقول “أما بعد، بلغنى كتابك تعظم على إصابة المال الذى أصبته من مال البصرة، ولعمرى إن حقى فى بيت المال لأعظم مما أخذت منه والسلام”.
هذه المرة يأتى الرد سافرًا، نعم أخذت، لكنه حقى، بل إن حقى فيه أكثر، أى حق؟ وبأى حق؟ وهل لعبدالله بن عباس فى بيت مال المسلمين حق أكثر مما لرجل من المسلمين؟
هذا ما تساءل به على فى رده على هذا الخطاب، وهو رد بليغ وحزين لا أريد أن أشغل به القارئ فأزيده حزنًا فوق حزن، لكنى أنتقل به فجأة إلى رد (برقى) آخر من ردود ابن عباس، حسم به النقاش، وأنهى به الجولة، وختم به حديث الدين والعقيدة، مهددًا بسطوة الدنيا وسيفها، وسلطانها وزيفها، قائلاً لابن عمه على:
“لئن لم تدعنى من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به”.
وهكذا أصبحت الموعظة الحسنة أساطير لدى عبدالله بن عباس، وأصبحنا نحن فى حيص بيص كما يقولون، نضرب كفًا بكف، ونتساءل فى مرارة: هل نأتمن على ديننا من لم يؤتمن على دنيانا؟.عزيزي القاريء (المصدر كتاب الحقيقة الغائبة للدكتور فرج فودة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى