علياء نصر تكتب لــ”بوابة الاقتصاد” أزمة يثيرها الإعلامى إبراهيم عيسى يواجهها المدافعون عن الدين ب(ضد منهج الدين)
من يصلح الملح إذا الملح فسد؟..
بوابة الاقتصاد
مشهد ١..
(ابن سينا )يخط بقلمه رواية (حي بن يقظان)،والتي تحوي مضامين فلسفية اعتبرها البعض ترويجا ضد الدين وإعلاءا لقيمة التجربة العقلية الذاتية في مواجهة فكرة الوحي والنبوة،وبهدؤ بالغ يرد عليه (ابن النفيس) في نضوج ورقي في رواية أخرى معارضة لطرحه_ ما أجل منطقها وأبهى حكمتها_ هي الرسالة الكاملية فى السيرة النبوية (رسالة فاضل بن ناطق )، مستعرضا من خلالها ما يفند أطروحة ابن سينا فى روايته،يتم هذا بمنتهى الرقي والبساطة والحكمة في مشهد حضارى لا يفوق رقيه رقي.يحدث هذا فى الفترة بين (١٢٦٨-١٢٧٧م).
مشهد ٢ ..
(إسماعيل أدهم) يكتب رسالة (لماذا أنا ملحد؟)ليؤكد فيها أنه ملحد مطمئن بالإلحاد ،طارحا في رسالته أفكارا إلحادية فيها من البساطة مالا يرضي أشد القراء المفكرين سذاجة،..فما كان من معارضي منهجه الإلحادي إلا أن قارعوه الحجة بالحجة ،فكتب (محمد فريد وجدى) رسالة (لماذا هو ملحد؟) ليفند من خلالها ما ورد فى رسالة أدهم من قناعات، وبقريحة يقظة وحكمة بالغة يكتب كل من( أحمد زكى أبو شادى )و(محمد جمال الدين الفندى) الرد المزلزل على الأطروحات الإلحادية فى رائعة (لماذا أنا مؤمن؟) يتم هذا فى بساطة مطلقة،ويتلقى القارئ كلا الرسالتين فى هدؤ تام بعيدا عن أى صخب أوصراخ أوهوس،يحدث هذا فى عام ١٩٣٧م.
،و فى عصرنا الحديث مشهد لله دره من ذاك السمو والرقي فى المحاورات التى دارت بين الملحد (شبلي شميل) ،والأستاذ الكبير الناضج_ غزالي زمانه_ الشيخ (محمد رشيد رضا)،والتى عكست تحضرا لا يدانيه تحضر،..ويعيينا عد أمثال تلك المواقف المتحضرة ونظائرها قديما وحديثا..
مشهد ٣ ..
الإعلامى المصري (إبراهيم عيسى)يطرح بعض التصورات المغلوطة بناءا على فهم قاصر لبعض وقائع السيرة النبوية، فيكون الرد إحالته للتحقيق فى عدد كبير من البلاغات للنائب العام.يحدث هذا في أجواء من الصخب والهوس والسب والقذف والتكفير ، مصر عام ٢٠٢٢م.
فكيف تنبت براعم البيئة الفكرية المنذرة بالخطر ؟..وكيف السبيل لتجنب نهايات قد تصبح كارثية؟..
في موقف قديم متجدد قتلته الأيام تكرارا،نواجه مشهدا يتصدره أحد المشككين في بعض الوقائع الدينية أو في ثابت معلوم من الدين بالضرورة ،أوحتى منكر للدين بالكلية مجاهر بإنكاره معلن بخصومته،فى مواجهة الفريق الآخر من المؤمنين المنافحين عن الدين الذين يرون في أنفسهم حراسا للدين قيمين على العباد مدافعين عن ثوابته واستقراره وتمكينه فى القلوب، ضد من يرونه مهرطقا زنديقا مفتئتا على الدين مغرضا خبيث النوايا،..يبدأ المشهد برجل يغرد(أو حتى ينعق)خارج السرب، ولأسباب معينة قد تكون بيئية مرتبطة بنشأته،أو بخلفياته الثقافية،أو بالمصادر المشوهة التي يثق بها ويستقي منها معلوماته،أو لبداياته التى يظل المرء أسيرا لها إلا أن يمتلك فكرا ناضجا به يمحص ويحقق ويدقق،ويقارب ويقارن،وقد يكون شذوذ بعض هؤلاء وجنوحهم بدوافع سيكولوجية نفسية وهذا يحدث كثيرا،ورأينا منهم نماذج متخبطة تنتهى بالأخير حياتهم فيها بالانتحار.
وليس غريبا أن تظهر تلك الأصوات والتوجهات المعارضة للفهم السائد،بل هى علامات صحية جدا مجتمعيا،وهي دليل على شيوع حالة من التأمل والتفكير،وهذا برهان على أن هذه المجتمعات تعيش مناخا فكريا وبيئة عقلية على مستوى متقدم ودرجة عالية،بيئة يتاح فيه للمرء أن يرى ما يخالف غيره،ويحيد بفهمه عن فهم الجماعة،والحق أن هذا يحدث فى كل المجتمعات وجل القضايا،علمية كانت أو فلسفية أو دينية،ولا شئ فى هذا إطلاقا،بل إن غياب هذه الحالة هو ما ينذر بتكلس المجتمعات وجمودها،والحق أن ما يمثل فارقا حضاريا بين مجتمع وآخر ليس هو ظهور المخالفين للمجموع،فهذا أمر طبيعي وهو ما جبلنا عليه كبشر مختلفين،وهو جزء من حكمة الخالق.(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ )قرآن كريم، بل إن المعيار الحضاري الحق هو ردود فعل مخالفيهم على ما يقدمونه من أطروحات و أسلوب المجتمع في مواجهة ما يقدمونه من أفكار.
فكلما كانت ردود الفعل منطقية هادئة حكيمة كان دليلا على تحضر هذا المجتمع،وكلما كانت ردودا صاخبة محمومة مهووسة كان هذا مؤشرا خطرا،..وإني وإن كنت أتفهم غضبة المؤمنين وغيرتهم الصادقة على الدين،إلا أنني أدرك أيضا تمام الإدراك أن طريقتهم تلك فى التعبير عن محبتهم للدين هي على الحقيقة وبال على الدين نفسه،ولها من النتائج الكارثية ما لايراها بعين المستقبل إلا كل عاقل.
وهم باندفاعهم وروعنتهم يلحقون بالدين الضرر من حيث أرادوا له المنفعة،فحينما يتم إرهاب ذوي الآراء المخالفة وإسكات أصواتهم بسيف القانون والقضاء وبسلاح التخويف والتكفيرثم تعريضهم للحبس أو العقوبة أو القتل،فإن هذا كله يخلق منهم فى نظر البعض شهداءا للرأي وأبطالا للكلمة،فنكون بهذا قد خلقنا من هؤلاء المخالفين أسطورة بطولية للمتشككين تزداد فيها قيمتهم بقدر زيادة ما يتكبدونه من محن،وتعلو فيها مكانتهم بمقدار ما يتكلفونه من عناء،فيصبح هؤلاء أيقونة للشباب الذين يتصفون بداهة بصفات الثورة والتمرد والتوق للخروج على المألوف،والحق أن هذه الطريقة الغبية فى مواجهة هؤلاء هى مما يخدم منهجهم لا ما يعوقه،وربما استشرت فكرة مغلوطة لمجرد أن صاحبها قد مر بمحنة أو عانى تنمرا أو هجوما من مجتمعه حال تمسكه بها،فنكون بهذا أعطيناهم وسام البطولة والشجاعة على سخافة توجهاتهم، بدلا من فضح قصور تلك الأفكار وسذاجتها بسيف العقل والمنطق والحجة والبرهان.
والحق أن من يستخدمون هذا المنهج القسري العنيف من المؤمنين (وإن سلمت نواياهم)فى إسكات أصوات المخالفين ،هم ممن يسيئون للدين إساءة بالغة،ويظهرونه فى مظهر هش لا يكون فيه الانتصار له إلا بإسكات خصومه عنوة وقسرا وإرهابا،وهو إلصاق لتهمة الضعف به كونه سيظهر للجاهلين به كدين غير قادر عن الدفاع عن نفسه بقوة الفكرة والحجة والمنطق، فيلجأ أتباعه اضطرار لاستخدام سلاح همجي هو الترويع والإرهاب،وهو آداء مزرى فيه تقليل من الدين الذي أعلى من قيمة الفكر والحوار والمجادلة بالحسنى ،والحق أنهم بأسلوبهم ذلك يخالفون منهج الدين نفسه الذي أقره الشارع،فكم من ساب وقاذف ومعتد ومكذب لمحمد الرسول عامله الرسول والمؤمنون بتحضر كبير أفضى بالنهاية إلى تغير قلب هذا المعاند إلى الإسلام ،وأبدل به حماقته وعيا وبغضه محبة،..وليس من الحكمة أن نكون كالدبة التى قتلت صاحبها خشية عليه من ذبابة ،..فما لا يقع على الدين منه ضرر فادح لا ينبغي أن يتم تهويل أمره بتلك الصورة الغريبة.
والحق أن ما قاله الإعلامى إبراهيم عيسى ليس بجديد أبدا، بل هو فيه ناقل لسابقيه ممن قالوا بهذا وأكثر منه، ولا أدري حقا إن كان من ثاروا عليه بتلك الصورة هم فعلا ممن يرون في أطروحاته الساذجة خطرا كبيرا على الإسلام يستدعي منهم كل هذا العنف ؟،أم أن أمثال تلك الدعاوى تتيح للبعض فرصة الظهور بمظهر حامي حمى الدين وحارسه ومن ثم لإثبات قوة تدينه فى نظر الخلق ،ومن ثم ريادته عليهم لاحقا؟ ولست أتهم بهذا كل من تبنى هذا النوع العنيف من ردود الفعل ،فبعضهم صادق فى غيرته على الدين بالفعل،وطريقته العنيفة لا تعدو كونها غضبة عفوية للدين بدرت منه بغير تأن أو حساب ،لكني أيضا لا أبرئ البعض الآخر من آداء استعراضي تمثيلي سخيف لا يجاوز فيه قولهم حناجرهم،ولا عجب..(فما كان من القلب يصل إلى القلب وما كان من اللسان لم يتعد الآذان).
ولا أجل في تقديري من مؤمن غيور على دينه يذود عن الدين بأحكم الطرق وأعقلها،..فينافح الحجة بالحجة،ويقارع الدليل بما هو أقوى،فيكسب للدين أنصارا جدد ممن لا سبيل لاستمالتهم إليه إلا بإرضاء عقولهم وإشباع أفهامهم،وهؤلاء ممن لا يعز إقناعهم على مؤمن قوي العلم والعقل معا، ممن مني برجاحة الفكر وثبوت الحكمة ، وهذا دون غيره هو المؤهل للقيام بهذا الدور،وليس ذلك المتصارخ المتحامق المولول، المهرول على أعتاب المحاكم والنيابات،وأمثال هذا ليس أبدا بالقادر على دفع الخطر الحقيقي الذي يحيق بالدين خصوصا فى زماننا هذا،..فعصرنا هذا هو عصر المعارك الفكرية التي لا يتحقق للدين فيها مكسب إلا بقوة المنطق والحجة،..وما أوهن سلاح الإرهاب والعقوبات القانونية فى ردع الأفكار المشوهة،بل هو سلاح ذو حدين به يجرح صاحبه قبل أن ينال من عدوه،فيصبح صاحب الحق فى مرمى هجمات كل مؤمن بحرية الفكر وبحقوق الإنسان فيمنح صاحب الباطل فخر التشدق بقيم لا يمثلها على الحقيقة.
ولا يستقيم أن يتمسك المؤمن بحق الإنسان فى التفكير وحرية الإرادة فى الوصول لمعتقد أو منهج بعينه مادام الأمر متعلقا بتحول غير المسلمين إلى الإسلام،أما حينما يضطر لمواجهة تلك المبادئ من أصحاب التوجهات المخالفة للإسلام ،يتحول فجأة إلى أعدى أعداء تلك القيم فى ازدواجية غريبة وتطفيف مخز لميزان العدالة فى الحقوق والتكافؤ فى الفرص ،هي ثنائية انتقائية يا أخي لا يرتضيها الدين نفسه..(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟).
ولى على رجال الدين الذين تبنوا هذا المنهج عتاب خاص،فما يتجاوز عنه من سلوك العامة من جاهل أو أرعن لايصح أبدا أن يتجاوز عنه إن صدر عن رجال الدين الثقات الذين يفترض فيهم الحنكة والعلم بالمنهج القويم للدعوة وبالطرق الحكيمة لدرء الفتن وسد الذرائع.
فيا رجال الدين يا ملح البلد،..من يصلح الملح إذا الملح فسد؟
ويستوى عندى فساد ملحهم عمدا أو جهلا وإن صحت عقيدتهم ، ففساد منهجهم فى الدفاع عن العقيدة بما يترتب عليه وقوع ضرر لا تتحقق به مقاصد الشرع بل تعارضها،بما يخالف مقتضيات الضروة وتعاليم الدين نفسه، هو مما عمت به البلوى.
ويبقى المنهج المكيافيلي عندي باطلا مهما زاد أتباعه وقويت شوكتهم..
فالغاية أبدا لا تبرر الوسيلة.
والنية الطيبة لا تصلح أبدا العمل الفاسد.