أوروبا تسدد فاتورة العنصرية المالية.. تعرف على خسائر القارة العجوز
بوابة الاقتصاد
يبدو أن “القارة العجوز” انتصرت في معركة العقوبات على روسيا جراء الحرب الأوكرانية، ولكن فاتورة العنصرية المالية الأوروبية أظهرت عكس ذلك.
وفي ظاهر الأمر أن أوروبا صادرت أصولًا روسية تتجاوز قيمتها 30 مليار دولار، بينها نحو 7 مليارات من الكماليات المملوكة لأوليجارشيين (يخوت وأعمال فنية وعقارات ومروحيات)، وفق ما أفاد البيت الأبيض، ولكن في باطنه أن روسيا حققت انتصارات عدة في معركة العقوبات، أبرزها إجبار الدول الأوروبية على استيراد الغاز الروسي بالروبل، وإعلان سداد الديون بالروبل، والضربة القاصمة التي عمقت جراح القارة العجوز جاءت من خلال استغلال المليارديرات الروس لثغرات القوانين الأوروبية وكذلك القوانين الأمريكية والإفلات من قبضة العقوبات.
عنصرية مالية.. “العين الإخبارية” ترصد الأموال الهاربة من أوروبا
إن الفاتورة التي تدفعها أوروبا مقابل العنصرية المالية التي مارستها تجاه “الدب الروسي” باهظة ومرهقة، خصوصا بعدما فقدت دول الاتحاد الأوروبي الثقة العالمية في نظامها المصرفي وسياساتها الاقتصادية بعدما أيدت بريطانيا وفرنسا قرار استبعاد البنوك الروسية من النظام المالي العالمي سويف (SWIFT).
ولا يخفى على أحد أن موقف الغرب بقيادة بريطانيا حول فصل روسيا من نظام سويفت (اختصار لجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) ومصادرة نصف الاحتياطي الروسي من النقد الأجنبي والذهب بما يعادل 300 مليار دولار، وكذلك مصادرة أموال شركات روس ومستثمرين لا علاقة لهم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف قطع جميع السبل على موسكو للتحكم في أموالها، سيدفع العديد من الدول إلى التفكير مليًا حول إيجاد أنظمة بديلة مثلما فعلت روسيا عندما أطلق البنك المركزي الروسي نظاما مشابها لنظام “سويفت” في عام 2014 عرف باسم SPFS، وتم استخدام النظام بشكل فعلي، وتم الإعلان أن عدد الدول المشاركة في النظام، والتي تتعامل من خلاله بلغت 23 دولة من الدول الحليفة صاحبة المصالح المشترك
كما أطلقت الصين الحليف الاستراتيجي لروسيا نظامها في عام 2015، وهو ما يعرف باسم CIPS، وتم الإعلان عن الربط الفعلي بين النظامين في 2019، إلى جانب إعلان روسيا عن دخولها سوق العملات الرقمية.
أوروبا تدفع ثمن العنصرية المالية
رضخت أوروبا بل يمكننا القول بأنها التفت حول عقوباتها على روسيا، بعدما قررت سداد مدفوعات الغاز بالروبل الروسي، والدول التي رفضت السداد بالروبل قطعت موسكو عنها إمدادات الغاز مثل بولندا وبلغاريا.
وفي يوم الجمعة 22 أبريل/نيسان الماضي، أصدرت السلطات البريطانية ترخيصا مؤقتا يسمح بتحويل قيمة مشتريات الغاز الطبيعي الروسي إلى بنك روسي خاضع للعقوبات الدولية التي تم فرضها على روسيا بسبب غزو أوكرانيا.
وذكرت وكالة بلومبرج للأنباء أن السلطات البريطانية سمحت بتحويل قيمة مشتريات الغاز إلى مصرف جازبروم بنك الروسي حتى نهاية مايو/أيار المقبل.
وصرح المستشار الألماني أولاف شولتز بأن حظرا مفاجئا على الغاز الروسي لن يؤدي إلى إحلال سلام سريع في أوكرانيا، ومن المهم بالنسبة لألمانيا تجنب حدوث أزمة اقتصادية خطيرة.
وقال شولتز، في مقابلة نشرت الجمعة 22 أبريل/نيسان الماضي في صحيفة دير شبيغل الأسبوعية: “أولا، لا أرى مطلقا أن حظر الغاز سيوقف الحرب. ثانيا، تتحدثون كما لو أننا نكسب المال من هذا الأمر. لكن النقطة المهمة هي أننا نريد تجنب أزمة اقتصادية خطيرة، فقدان ملايين الوظائف، المصانع التي لن تفتح مرة أخرى. ستكون لذلك عواقب وخيمة على بلدنا وأوروبا بأكملها”.
“صدمة سلبية ضخمة”.. إلى أين تقود الحرب الروسية الأوكرانية الأم “السمراء”؟
وشدد المستشار الألماني على أن ذلك بدوره سيؤثر بشكل خطير على تمويل إعادة بناء أوكرانيا، مضيفا قوله: “يجب أن أقول: لا يمكننا السماح بذلك”.
يذكر أن خبراء ألمانا صرحوا مرارا بأن الامتناع الشديد عن الغاز من الاتحاد الروسي سيضر بشدة بالصناعة الألمانية وينطوي على مشاكل اقتصادية خطيرة، وتعمل برلين في الوقت نفسه، على التخلص التدريجي من إمدادات الطاقة الروسية بمرور الوقت.
وفي مشهد آخر، لجأت بولندا إلى الأبواب الخلفية لشراء الغاز الروسي، بعدما رفضت سداد قيمة الغاز بالروبل، ولكنها لم تصمد طويلا على موقفها الهجومي ضد موسكو، وسرعان ما لجأت للباب الخلفي واشترت الغاز الروسي من ألمانيا.
وقال المتحدث باسم شركة “جازبروم” الروسية سيرجي كوبريانوف إن بولندا تشتري الغاز الروسي من ألمانيا، بعد وقف الضخ المباشر له.
وكانت جازبروم أعلنت وقف ضخ الغاز لبولندا بعد رفضها الدفع بالروبل مقابل تدفقات الغاز لشهر نيسان/أبريل.
ونقلت وكالة “بلومبرج” للأنباء عن المتحدث القول “أعلَنوا رسميا أنه لم تعد هناك حاجة للغاز الروسي وأنه لن يتم شراؤه. ولكن في الواقع، هذا ليس هو الحال”.
وأظهرت بيانات مساء الخميس ارتفاع الطلب الأوروبي على الغاز الروسي المار عبر أوكرانيا، وذلك بعد وقف الضخ لبولندا وبلغاريا.
ونقلت وكالة أنباء “إنترفاكس” الروسية عن سلطات تنظيم عبور الغاز في أوكرانيا أن الطلب على ضخ الغاز الروسي ارتفع أمس الخميس من طلبات أولية عند 49.8 مليون متر مكعب إلى 64.8 مليون متر مكعب. وأن الطلبات لليوم الخميس عند 63.4 مليون متر مكعب.
وأعلن الاتحاد الأوروبي، الخميس، أن بولندا وبلغاريا تحصلان حاليا على احتياجاتهما من الغاز من الدول المجاورة الأعضاء في الاتحاد.
ووضعت ألمانيا نفسها في مأزق خطير بعدما رفض بنك الغاز الرئيسي لروسيا، جازبروم، قبول مدفوعات الغاز من شركة تجارة استحوذت عليها ألمانيا بعد أن كانت خاضعة لسيطرة موسكو، وذلك في أول إشارة إلى الخلاف بين الجانبين بعد خطوة الاستحواذ في ظل جدول إقليمي واسع النطاق حول قضية الطاقة.
وبحسب ما ذكرته مصادر مطلعة لوكالة أنباء بلومبرج، مساء الأربعاء 27 أبريل/نسيان 2022، رفض بنك جازبروم تلقي مقابل توصيل بعض شحنات الغاز في أبريل/نيسان الجاري ومايو/أيار المقبل إلى ألمانيا والنمسا بموجب عقد موقع مع شركة جازبروم المحدودة للتسويق والتجارة، حتى رغم أن الشركة سعت إلى سداد ثمن الوقود باستخدام حساب الروبل كما طلبت روسيا.
روسيا تهدد بقطع الغاز عن مزيد من الدول
وهدد الكرملين الأربعاء 27 أبريل/نيسان الجاري بقطع إمداداته من الغاز الطبيعي عن الدول التي لا تدفع لشركة الطاقة الروسية “جازبروم” بالروبل، بعد ساعات من وقف تدفقات الغاز إلى بولندا وبلغاريا.
ونقلت وكالة أنباء “تاس” عن ديميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين قوله: “بينما يقترب الموعد النهائي لمدفوعات (الغاز)، إذا رفض بعض المستهلكين الدفع وفقا للنظام الجديد، فسيتم تطبيق قرار الرئيس (فلاديمير بوتين)”.
وأصدر بوتين قرارا في آذار/ مارس ينص على أن “الدول غير الصديقة” ومن بينها جميع دول الاتحاد الأوروبي لن يتم السماح لها بدفع مقابل الغاز الروسي إلا بالروبل.
أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن، مساء أمس الخميس أنّ الولايات المتّحدة لن تسمح لروسيا بأن تمارس “ابتزاز الغاز” للضغط على حلفاء بلاده الأوروبيين والالتفاف على العقوبات التي فرضها الغرب عليها بسبب غزوها أوكرانيا.
وقال بايدن “لن نسمح لروسيا بممارسة الترهيب أو الابتزاز هرباً من هذه العقوبات. لن نسمح لهم باستخدام نفطهم وغازهم لتجنّب التداعيات الناجمة عن عدوانهم”.
وأضاف “نعمل مع دول أخرى، مثل كوريا واليابان وقطر لمساعدة حلفائنا الأوروبيين المهدّدين بابتزاز الغاز الذي تمارسه روسيا”.
33 مليارا إضافية تدفعها أمريكا
أكد الرئيس جو بايدن، أمس الخميس، أن الولايات المتحدة لا يمكنها إلا أن تتحرك حيال النزاع في أوكرانيا، وذلك لتبرير طلبه من الكونجرس رصد 33 مليار دولار إضافية لتقديم مزيد من المساعدة العسكرية إلى كييف.
سيخصص 20 مليارا من هذا المبلغ الهائل لتزويد أوكرانيا بأسلحة، ما يفوق بنحو سبعة أضعاف كميات الأسلحة والذخائر التي سبق أن أرسلت إلى كييف منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا 24 فبراير/شباط.
انهيار اليورو والدولار أمام الروبل
تراجع سعر صرف اليورو أمام الروبل، خلال تعاملات الخميس، دون مستوى 75 روبلا ، وذلك للمرة الأولى منذ مارس 2020، لكنه عاد للارتفاع قليلا بعد ذلك.
كذلك تراجع سعر صرف الدولار بواقع 18 كوبيكا (الروبل = 100 كوبيك) إلى 72.60 روبل، وفقا لبيانات بورصة موسكو.
وخلال تعاملات مساء الخميس 28 أبريل/نيسان 2022 انخفضت العملة الأوروبية أمام نظيرتها الأمريكية دون مستوى 1.05 دولار، وذلك للمرة الأولى في نحو 5 سنوات.
وبعد العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا تراجعت العملة الروسية في النصف الثاني من شهر مارس الماضي إلى مستويات تاريخية، إذ تجاوزت مستوى 140 روبلا للدولار، ولكن بعد إعلان البنك المركزي الروسي الشهر الماضي مجموعة من الإجراءات لتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي في روسيا بدأ الروبل بالتعافي وأصبح الدولار اليوم يساوي 72.60 روبل.
ومن أبرز الإجراءات، التي أطلقها المركزي الروسي، هو إلزام المصدرين في روسيا ببيع 80% من عائدات النقد الأجنبي في بورصة موسكو.
وصرح كريل ستريموسوف ، نائب رئيس الإدارة المدنية العسكرية في مدينة خيرسون الأوكرانية الخاضعة لسيطرة القوات الروسية، لوكالة أنباء “ريا نوفوستي”، أن منطقة خيرسون في أوكرانيا ستنتقل إلى استخدام العملة الروسية بداية من مايو/أيار المقبل من خلال فترة انتقالية ستستغرق أربعة أشهر.
وأوضح “ستريموسوف” أنه خلال الفترة الانتقالية سيتم تداول كل من الروبل الروسي والهيرفينا الأوكرانية معًا.
اقتصاد أوروبا ضحية العنصرية المالية
وقال كبير مسؤولي الاستثمار العالمي في بنك “كريدي سويس” مايكل ستروبيك، إن موجات الصدمة المنبثقة عن الحرب الأوكرانية كانت بمثابة “فجر نظام عالمي جديد” للاقتصاد الدولي، ويمكن اعتبار ارتفاع التضخم وتقلبات الأسواق المالية أمرا مفروغاً منه.
ونقلت “الجارديان” عن ستروبيك قوله: “لا تمثل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا سوى تحول بعيد عن النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والغرب إلى حد كبير والذي ساد منذ سقوط جدار برلين”.
وتلفت “الجارديان” إلى أن أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا ارتفعت بنسبة 70% بعد غزو أوكرانيا، بينما لامس سعر النفط العالمي 105 دولارات للمرة الأولى منذ عام 2014، مما يغذي احتمالية زيادة أخرى في تكاليف المعيشة.
أوروبا تلتف حول عقوباتها.. محنة “إدمان الغاز الروسي”
وتتأثر بعض البلدان أكثر من غيرها، حيث يمثل الغاز الروسي 40% من إمدادات الطاقة في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من ارتفاع هذه النسبة في بعض الدول مثل جمهورية التشيك ولاتفيا إلى 100%.
وأصبحت ألمانيا أكثر اعتماداً على مصادر الطاقة الخارجية في العقدين الماضيين، حيث ارتفعت إلى 67% وهي من بين أعلى المعدلات في الاتحاد الأوروبي.
ويمثل الغاز الروسي القليل من الطاقة في بريطانيا، حيث يمثل ما نسبته 5% فقط من إجمالي الواردات العام الماضي، ومع ذلك فإن الارتفاع في الأسعار العالمية سيظل يلحق الضرر بمستويات المعيشة في بريطانيا في وقت يستعد فيه المستهلكون البريطانيون بالفعل لارتفاع فواتير الغاز والكهرباء المنزلية بنسبة 54% اعتباراً من أبريل المقبل، بحسب “الغارديان”.
وكان من المتوقع أن يرتفع معدل التضخم في بريطانيا من أعلى مستوى له في 30 عاماً عند 5.5% إلى أعلى مستوى له بأكثر من 7% في أبريل/نيسان الجاري، وبافتراض حدوث انخفاض في تكاليف الطاقة بالجملة فمن المتوقع أن ينخفض التضخم في وقت لاحق من هذا العام.
ولا يزال الاقتصاديون يعتقدون أن صادرات الغاز ستستمر في التدفق، مستشهدين في ذلك بتاريخ التوترات بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة عندما واصل الاتحاد السوفيتي ضخ النفط والغاز إلى أوروبا.
ونظراً لأن روسيا تجني 700 مليون دولار يومياً من بيع النفط والسلع الأخرى إلى الغرب، فإن لدى بوتين مصلحة قوية في الحفاظ على التدفق، في حين أن الغرب لديه مصلحة قوية في الشراء لتجنب تفاقم أسوأ صدمة تضخم منذ عقود.
كما قفزت أسعار القمح إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2008، مما يهدد برفع أسعار الغذاء. وقبل عقود من الزمن كان الاتحاد السوفيتي أكبر مستورد للقمح في العالم، حيث كان يشتري 55 مليون طن سنوياً في منتصف الثمانينيات، ومع ذلك تفوقت روسيا على الولايات المتحدة وكندا لتصبح أكبر مصدر في العالم في منتصف العقد الماضي.
وتمثل روسيا وأوكرانيا معاً أكثر من ربع إمدادات العالم من القمح، حيث تصدر أوكرانيا 95% من قمحها عبر موانئ البحر الأسود حيث تضغط السفن الحربية الروسية حالياً من أجل السيطرة، بحسب تقرير “الجارديان”.
وعلى صعيد المواصلات، فان الاضطرابات الجديدة في طرق التجارة ستضيف إلى التكاليف وأوقات التسليم للشركات، وهي عوامل تساهم أيضاً في ارتفاع أسعار المستهلك.
ويمكن أن يكون لهذا الصراع المحدد تأثير خاص على صناعة الشحن، والتي عانت بالفعل من إشكالات، بسبب فيروس “كورونا” وانسداد قناة السويس مؤخراً، ووفقاً لغرفة الشحن الدولية فان ما يقرب من 15% من البحارة في العالم هم من الروس أو الأوكرانيين، ويمكن أن تتأثر سلاسل التوريد والتكاليف إذا تم تقييد حرية الحركة لمثل هذا الجزء الكبير من القوة العاملة.
كما تعرضت الأسواق المالية العالمية للاضطراب بسبب الحرب الأوكرانية، مما أدى إلى القضاء على المليارات من قيمة مؤشر “فوتسي100” البريطاني.
كما يتوقع الاقتصاديون أن يؤدي الصراع إلى تعقيد قرارات البنوك المركزية العالمية برفع أسعار الفائدة، حيث يتوقع بعض المحللين أنها قد تتراجع عن الزيادات المخطط لها على الرغم من أن الوضع يزيد الضغوط التضخمية.