هل تنحسر موجة التضخم وسط تبخر مدخرات الأسر؟
بوابة الاقتصاد
المخاوف تتعلق بأن تكون ارتفاعات الأسعار أعلى بكثير من زيادات الأجور
كشف تقرير حديث عن أن جنوح التضخم وتسجيله مستويات مرتفعة بدأ في الولايات المتحدة الأميركية، لكن هذه الموجة امتدت إلى بقية العالم الغني، حيث ارتفعت أسعار المستهلكين عبر نادي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للبلدان الغنية بنسبة 7.7 في المئة، على أساس سنوي، وهي أسرع وتيرة زيادة في ثلاثة عقود على الأقل.
في هولندا، يقترب معدل التضخم من 10 في المئة، وهو أعلى من مثيله في أميركا، بينما يزيد في إستونيا على 15 في المئة، لكن ما مدى القوة التي ينبغي أن تستجيب بها البنوك المركزية للطفرة التضخمية؟ تعتمد الإجابة على مقدار الضرر الذي يسببه التضخم، وينظر إلى التضخم على أنه مكلف لأنه يقوض مدخرات المواطنين، ويشوه إشارات الأسعار، وهناك حالات بلا شك تسبب فيها التضخم المرتفع في انهيار اقتصادات، فخلال فترة التضخم المفرط في ألمانيا في مدينة فايمار في عشرينيات القرن الماضي، تبخرت مدخرات الناس، ما أدى إلى القضاء على الطبقة الوسطى، ومهّد الطريق لظهور الفاشية، كما خرج التضخم عن السيطرة في زيمبابوي في عهد روبرت موغابي، ومع انهيار إشارات الأسعار، يصبح الملايين من سكان العالم من دون طعام.
مذبحة اقتصادية أضعف
ولكن في فترات التضخم الأكثر اعتدالاً، يكون الدليل على حدوث مذبحة اقتصادية أضعف، وتتمثل إحدى المخاوف الشائعة في أن الزيادات في الأسعار تفوق ارتفاعات الأجور، ما يتسبب في انخفاض الدخل الحقيقي للناس، ويكاد يكون من المؤكد أن هذا حدث في مختلف أنحاء البلدان الغنية في الأشهر الأخيرة، فقد انخفضت المكاسب الحقيقية للساعة الأميركية بنسبة ثلاثة في المئة تقريباً في العام حتى مارس (آذار) الماضي.
على العموم، يرى الاقتصاديون وفق صحيفة “إيكونوميست”، وجود علاقة ضعيفة بين التضخم ومستويات المعيشة الحقيقية للعمال، وفي بعض الأحيان، ترتفع الأسعار بشكل أسرع وأعنف من زيادات الأجور، وتشير البيانات إلى أن الأجور الحقيقية البريطانية نمت بقوة خلال حقبة التضخم في السبعينيات، ووفقاً لدراسة نُشرت عام 1975، شهد العمال الأميركيون، سواء أكانوا منتمين إلى نقابات أم لا، زيادات في الأجور تكسر التضخم في العقد السابق، ووفق بيانات 35 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تعود إلى عام 1990، ففي السنوات التي تجاوز فيها التضخم خمسة في المئة، تبين أن الأجور الحقيقية ارتفعت في المتوسط، ويمكن أن يساعد التضخم العاطلين عن العمل في العثور على وظائف، حتى لو كان يؤذي الأشخاص الذين يعملون بالفعل.
وبعد الأزمة المالية العالمية في 2007-2009، انخفضت قيمة الجنيه الاسترليني، ما أدى إلى ارتفاع التضخم في بريطانيا وخفض الأجور الحقيقية، لكن يمكن للشركات بعد ذلك تحمل تكاليف توظيف المزيد من العمال.
أما الفكرة القائلة إن التضخم يعبث بإشارات الأسعار، وهي تكلفة اقتصادية مفترضة أخرى، فهي مبالغ فيها عند مستويات معتدلة، وتخصص الرأسمالية الموارد من خلال تحركات الأسعار النسبية: إذا ارتفع سعر السيارات مقارنةً بالدراجات، فينبغي في النهاية إنتاج المزيد من السيارات، لكن القلق هو أن التضخم يعطل هذه العملية، ما يجعل من الصعب تمييز الأسعار النسبية “الحقيقية” للسيارات والدراجات.
لماذا يكره الاقتصاديون ارتفاع التضخم؟
في ورقة بحثية نشرت عام 2018، فحصت إيمي ناكامورا من جامعة كاليفورنيا وزملاؤها، تشتت الأسعار للأنواع نفسها من المنتجات بمرور الوقت، وبالنظر إلى فترة التضخم المرتفع في السبعينيات، لم يجدوا “أي دليل على أن الأسعار انحرفت أكثر عن مستواها الأمثل” مما كانت عليه قبل الوباء مباشرة، عندما كان التضخم أقل بكثير، وخلصوا إلى أن “الاستنتاجات القوية حول أمثلية معدلات التضخم المنخفضة في هذا الصدد تحتاج إلى إعادة تقييم”.
الأوراق المتطورة مثل هذه تدعم مجموعة أوسع من الأعمال، والتي تشكك في الصلة بين التضخم والنمو، فقد أشارت ورقة بحثية نشرها صندوق النقد الدولي عام 2014 إلى أن “القليل من الدراسات التجريبية حاولت حتى العثور على تكاليف تضخم أحادي الرقم”، في عام 1996، وجد مايكل برونو وويليام إيسترلي، وكلاهما من خبراء البنك الدولي، أنه “لا يوجد دليل على أي علاقة بين التضخم والنمو بمعدلات تضخم سنوية أقل من 40 في المئة”، وفي العام التالي، كتب بول كروغمان أنه “على الرغم من أن التضخم ينظر إليه عالمياً على أنه كارثة رهيبة، فإن الجهود المبذولة لقياس تكاليفه تأتي بأعداد صغيرة محرجة”.
إذاً، هل نوبة التضخم الحالية في العالم الغني لها تكاليف ضئيلة، أو لا تكلفها على الإطلاق؟ تكمن مشكلة الاقتصاديين في وجود عالم خارج نطاق أبحاثهم، وقلة من الناس يعرفون أو يهتمون بنتائجهم، لكنهم يعرفون ما يفكرون به بشأن التضخم: إنهم يكرهونه تماماً وبلا هوادة.
مكافحة التضخم بتشديد السياسة المالية والنقدية
ويبدو أن التضخم يحتل مكانة خاصة في الوعي العام، ويشير تحليل للصحف ومنشورات المدونات، إلى أنه خلال العقد الأول من القرن الـ21، ذكرت المؤسسات الإعلامية أن التضخم أكثر تواتراً بنسبة 50 في المئة مما ذكرت البطالة، على الرغم من أن البطالة خلال ذلك العقد كانت مشكلة اقتصادية أكبر بكثير.
وفي التسعينيات من القرن الماضي، سأل روبرت شيلر من جامعة “ييل” أشخاصاً في عدد من البلدان عن آرائهم حول التضخم، وقارنهم بآراء الاقتصاديين، ووجد أن الناس العاديين لديهم آراء أكثر تطرفاً حول هذا الموضوع من الأكاديميين الذين يدرسونه لكسب لقمة العيش.
وفي وقت يعتقد الناس فيه أن التضخم يجعلهم أكثر فقراً، إذ إنهم قلقون من أن ذلك يجعل التخطيط أكثر صعوبة، ويعتقدون أن التضخم هو علامة على أن الشركات عديمة الضمير تستغلهم، بينما عزا ثلثا الأميركيين الارتفاع الأخير في التضخم إلى جشع الشركات.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الاقتصاديين أكثر غموضاً في إجاباتهم، فأكثر من نصف الأميركيين “وافقوا تماماً” على أن منع التضخم المرتفع لا يقل أهمية عن وقف تعاطي المخدرات أو الحفاظ على المعايير التعليمية، مقارنة بـ18 في المئة فقط من الاقتصاديين، وفي الدراسة الاستقصائية نفسها، تبين أن 46 في المئة من الناس أرادوا أن تخفض الحكومة مستوى الأسعار بعد ارتفاع التضخم أي اتباع هندسة الانكماش، وهو أمر قد يوصي به القليل من الاقتصاديين.
وربما يتعين على صانعي السياسة تجاهل آراء الناس العاديين، إذا وجد الخبراء أن التضخم له تكاليف منخفضة بشكل مدهش، فما هي المعلومات الإضافية المطلوبة لتوجيه السياسة؟ ومع ذلك، هناك طريقة أخرى للنظر في الأمر، وهي أن التكاليف النفسية للتضخم المرتفع حقيقية، ويجب على البنوك المركزية والحكومات أخذها في الاعتبار، وغالباً ما ينظر إلى مكافحة التضخم عن طريق التشديد الصارم للسياسة المالية أو النقدية على أنه خيار صعب لأنه يخاطر بإثارة الركود، وفي الواقع، إنها واحدة من أكثر السياسات شعبويةً.