الدفع بـ «البلاستيك» .. تراكم الديون بات مستداما والجميع قد يدفع الثمن
بوابة الاقتصاد
سواء كنت تفضلها لأنها تسهل عليك معاملتك المالية، وتحول دون أن تحمل في محفظتك كثيرا من النقود، أو كنت ترفضها وتنفر منها لأن معدلات الفائدة عليها مرتفعة، فلا يوجد أحد منا يستطيع أن ينكر أن بطاقات الائتمان واحدة من أعمدة المعاملات المالية اليومية والنشاط الاقتصادي.
عبر تاريخها قدمت بطاقات الائتمان مزايا تتفوق على جميع أشكال المال، بطاقة بلاستيكية بحجم الجيب، سهلة الحمل، آمنة إلى حد كبير، وليس لها قيمة جوهرية في ذاتها، ففي نهاية المطاف ما هي إلا قطعة من البلاستيك، ومع هذا فإن تلك القطعة واحدة من المنتجات المالية الأساسية في عالم اليوم تطورت سريعا لتصبح على قمة عالم المعاملات المالية.
لكن كيف ظهر ونما أسلوب “الدفع بالبلاستيك” كما يحلو للبعض أن يطلق عليه، وإلى متى يمكن أن تبقى بطاقات الائتمان كوسيلة دفع رئيسة في الاقتصاد العالمي؟ وهل اقترب موعد رحيلها من المشهد، أم لا يزال أمامها بعض الوقت، وإذا رحلت ما هي البدائل التي يمكن أن تحل محلها.
لكي نفهم كيف ظهرت بطاقات الائتمان وتطورت إلى عديد من أنواع البطاقات المتوافرة في أسواق اليوم، علينا أن نركب عربة الزمن ونعود إلى الوراء خمسة آلاف عام.
ويشير المؤرخون إلى أن مفهوم الائتمان يعود إلى 50 قرنا مضت، حيث ظهر أول ما ظهر في بلاد النهرين- العراق حاليا- فنقوش الألواح الطينية لتلك الفترة الزمنية، تكشف سجلا للمعاملات بين تجار بلاد ما بين النهرين وتجار المناطق المجاورة، باختصار كان جوهر الفكرة بسيط اشتر شيئا الأن وادفع ثمنه لاحقا.
نركب عربة الزمن مرة أخرى ونقطع من عمر الزمن عدة قرون، ونصل إلى القرن الـ19، حيث التجار في الغرب يبيعون البضائع للمزارعين ومربي الماشية، لكن هؤلاء لا يمتلكون مالا للشراء، فتفتق ذهن التجار عن فكرة تضمن البيع والحصول على أموالهم في وقت لاحق، الأمر باختصار إيصال يوقعه المزارع أو مربي الماشية بأنه حصل على السلعة وسيدفع لاحقا، وعندما يحل موسم الحصاد أو يبيع الرعاة ماشيتهم، فإنهم يسددون ما عليهم للتجار، وبالطبع يحصلون على الإيصال الذي وقعوا عليه.
مرة أخرى ننطلق عبر الزمن ونصل إلى 1950، وإلى الليلة التي نسي فيها رجل الأعمال فرانك ماكنمار محفظته أثناء تناول الطعام بالخارج في أحد مطاعم نيويورك، كان الأمر محرجا، لكن زوجته جاءت سريعا لإنقاذه ودفع ثمن وجبة الطعام، الموقف المحرج شحذ أفكار ماكنمار، فاقترح فكرة بطاقة صغيرة من الورق المقوى، يمكن لحامليها استخدامها ودفع الفاتورة بـ”الكامل” كل شهر، وكانت تلك البداية الأولي لما يعرف بـDiners Club، حيث أنشأ مكنمار مع شريك له ما يشبه ناديا حصريا ضم في البداية 27 مطعما تقبل بكارت Diners Club، وكان على الراغبين في الحصول على تلك البطاقة دفع ثلاثة دولارات لينالوها.
بحلول 1958 أطلقت أمريكان إكسبريس أول بطاقة ائتمان لها مصنوعة من الورق المقوى، تلتها بعد فترة وجيزة أول بطاقة ائتمان بلاستيكية في 1959.
من جانبه، يقول لـ”الاقتصادية” الدكتور إل.آر. ويلسون، أستاذ مادة التاريخ الاقتصادي في جامعة لندن “إذا كان أصل فكرة بطاقة الدفع الحديثة يعود إلى فرانك مكنمار، فإن الذي دفع الفكرة للأمام شركة أمريكان إكسبريس، فالفكرة التي طرحها مكنمار، أدت إلى أن يكون لديه أول بطاقة دفع ائتمانية، لكن Diners Club طلبت من المستهلكين دفع الرصيد آخر الشهر بالكامل، أما بطاقة أمريكان إكسبريس فمنحت العملاء خيار حمل رصيد على بطاقاتهم للأشهر التالية، كان هذا هو الابتكار المطلوب لإنشاء المنتج المالي، الذي نعترف به كبطاقة ائتمان حديثة”.
ولكن لماذا مثلت فكرة البطاقة الائتمانية فكرة ثورية في حينها تساعد على النمو الاقتصادي؟
من جانبه، يوضح لـ”الاقتصادية” الدكتورة إلين لورنس، أستاذة التنمية المالية في جامعة جلاسكو، “لم تكن الحسابات البنكية ذائعة الانتشار، والذين لديهم حسابات مصرفية في ذلك الحين، كان لديهم إمكانية محدودة للسحب على المكشوف، وكانت البنوك تمنح هذا الامتياز بعد مقابلة طويلة، وبحث دقيق على العميل، وغالبا كان الأثرياء فقط هم القادرون على الحصول على الائتمان، لكن بالنسبة للأشخاص العادين فكان عليهم الادخار قبل شراء الأشياء التي يحتاجونها”.
وتواصل قائلة بدأت بطاقات الائتمان تصبح متاحة للناس العاديين في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وبعد أن كان واجبا عليهم سدادها بالكامل، بات في قدرتهم السداد على أقساط، ما زاد من إمكاناتهم الشرائية وأسهم في إنعاش الاقتصاد.
في وقت لاحق من 1958 اتخذ بنك أوف أمريكا ومقره كاليفورنيا خطوة أخرى للأمام، فأصدر بطاقة BankAmericard بحد أقصى 300 دولار فقط لا غير، وبلغ عدد العملاء 60 ألف عميل، ولكنه كان يعمل على نطاق كاليفورنيا فقط بمعنى آخر كان يعمل على نطاق محلي.
وجاءت القفزة الكبرى 1966 عندما جعل بنك أوف أمريكا تلك البطاقات ذات طابع وطني، بحيث يمكن استخدام بطاقة الائتمان في أي مكان في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من تزايد معدلات التخلف عن السداد وتفشي الاحتيال، فإن مفهوم بطاقة الائتمان التي يمكنك الاحتفاظ برصيد عليها من شهر إلى آخر نجح في الاستحواذ على قبول الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة والبلدان المتقدمة، نظرا لما يوفره هذا المنتج المالي من راحة وضمان قرض شخص، ولهذا وبعد عقد من الزمان أي في 1976 غير بنك أوف أمريكا اسم البطاقة إلى “فيزا كارت ” تقديرا لوجودها على الساحة الدولية.
شجع نجاح تجربة بنك أوف أمريكا مجموعة من بنوك كاليفورنيا بتشكيل شراكة تعرف اختصارا بـITC لتصدر ثاني أكثر بطاقات الائتمان شيوعا “ماستر كارت”، وبعد أن كان على البنوك الاختيار بين المتنافسين “فيزا” و”ماستر كارت”، سمحت التغييرات اللاحقة للبنوك بالانضمام إلى كلتا البطاقتين وإصدار كلا النوعين من البطاقات لعملائهم.
وبالطبع لا يزال الجدل قائما حول ما هي أول بطاقة ائتمان دولية، فبينما يصر Diners Club على أنه الأول عندما بدأت الشركات في المملكة المتحدة وكندا والمكسيك في قبول المدفوعات من حاملي تلك البطاقات، يصر أنصار فيزا كارت بأنها الأولى عالميا.
ويكاد يكون من المستحيل الفصل بين بطاقات الائتمان وتطورها التقني، إذ كان الاختراق الكبير في تكنولوجيا بطاقات الائتمان في الستينيات عاملا مساعدا في تعميمها كوسيلة للدفع، وينسب الفضل في ذلك إلى مهندس في شركة IBM يدعى فورست باري، وضع شريطا مغناطيسيا على ظهر البطاقات بحيث يمكن للمستهلكين تمرير معلوماتهم في نقاط البيع.
بدوره، ذكر لـ”الاقتصادية” الخبير المصرفي التون تومي، أنه “مع ازدياد شعبية بطاقات الائتمان، وكذلك انتشار المحتالين، طورت البلدان المختلفة أنظمة شرائح بطاقات الائتمان الخاصة بها، لكن ذلك أوجد مشكلات بأن الشخص، الذي يسافر إلى بلد آخر، ربما لن تقر الأنظمة التكنولوجية في ذلك البلد البطاقة الائتمانية، التي يحملها لاختلاف نظم قراءة الشرائح، ومن ثم بات هناك حاجة إلى نظام دفع موحد، وفي 1994 بدأت ثلاث معالجات دفع دولية، وهي فيزا وماستر كارت ويوروبي في تطوير مواصفات الرقائق العالمية لأنظمة الدفع”.
وأضاف، أن أهم تقدم في صناعة شرائح بطاقات الائتمان جاء مع ظهور أنظمة الدفع غير التلامسية، حيث يمكن قراءة شريحة بطاقة الائتمان عن طريق الإمساك بها بالقرب من نقطة الدفع.
ويعتقد بعضهم أن بطاقات الائتمان وأيا كان المدى الزمني، الذي سيواصل البشر الاعتماد فيه عليها، فإنها أحدثت تغييرات جذرية في كثير من القضايا المالية، ربما يكون من أبرزها إيجاد مزيد من العدالة في مجال الإقراض أو الائتمان.
من ناحيته، يوضح لـ”الاقتصادية” الدكتور جي.دي.ماكسيم، أستاذ النقود والبنوك في جامعة لندن سابقا، “عبر التاريخ الإنساني كانت القروض تعتمد على السمعة والتقييم الشخصي من قبل المقرض للمقترض، لكن منذ خمسينيات القرن الماضي أنشأ المهندس ويليام فير وعالم الرياضيات إيرل إسحاق نظاما موحدا لتقييم الجدارة الائتمانية للشخص بناء على نظام تسجيل محايد، هذا النظام أسهم في جعل بطاقات الائتمان أكثر تأثيرا في حياتنا المالية والاقتصادية، عبر إضفاء الحيادية على الاقتراض”.
ويظل السؤال ما مستقبل بطاقات الائتمان؟ يمكن القول إن أي صناعة في عالم اليوم قائمة على التكنولوجيا، فإن مستقبلها سيتشكل بناء على التطورات التكنولوجية ذاتها، وبطاقات الائتمان لا تغرد خارج السرب.
فبعض بطاقات الائتمان تعمل على تطوير ذاتها بجعل العملات المشفرة خيار مكافآت بدلا من استرداد النقود أو النقاط، ومن المؤكد أيضا أن تقنية الدفع غير التلامسية، التي انتشرت بسبب وباء كورونا، ستزداد شعبيتها، ما يعني تحول المستخدمين بعيدا عن بطاقات الائتمان التقليدية نحو محافظ الهواتف المحمولة، كما سيلعب الذكاء الاصطناعي دورا مهما في تطوير عالم بطاقات الائتمان، وسيلعب دورا أكبر في كيفية تحديد الجهات، التي تستحق الحصول على بطاقات ائتمان عند التقدم بطلب للحصول عليها.
لكن الخبير المصرفي إلتون تومي، يرى أن الأمر يتطلب وقفة ذات طبيعة دولية للتعامل مع بطاقات الائتمان.
وأوضح لـ”الاقتصادية” أن “الدين أصبح على بطاقات الائتمان مشكلة كبيرة منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي حتى الآن، حيث تلقى العديد من الشباب حدودا ائتمانية عالية، ثم أصبحوا غير قادرين على سداد المبالغ المستحقة، وأدى ذلك لتراكم ديون باتت الآن مستدامة، بحيث أصبح استخدام بطاقة ائتمانية لسداد بطاقة أخرى طريقة حياة لمن ينفقون خارج قدرتهم المالية”.
وأضاف أن “معدل الفائدة في بطاقات الائتمان مرتفع للغاية، وهذا يتطلب وقفة ذات طبيعة دولية لخفض هذا المعدل، وإلا فإن الجميع ربما يدفع الثمن”.