بنوك الظل .. قوة اقتصادية بـ 160 تريليون دولار خطورتها وقت الأزمات المالية
بوابة الاقتصاد
يعد مصطلح “بنوك الظل” واحدا من أكثر المصطلحات شيوعا وانتشارا في الأدبيات الاقتصادية العالمية، لكنه شيوع وانتشار بنكهة من السلبية الممزوجة بالقلق، فالاسم في حد ذاته يحمل في طياته شعورا بعدم الارتياح وإحساسا بالريبة. فإذا كانت تلك البنوك شرعية فلماذا تتمسك بالبقاء في الظل، وهل في أنشطتها ما يريب ويدفعها لأن تمارس أعمالها في الظل؟
ربما هذا ما يرد إلى الذهن في اللحظة الأولى لقراءة المصطلح، وربما تحلق الأفكار بالبعض بعيدا فتأخذهم إلى عالم السينما، حيث يجلس شخص ما في غرفة شبه مظلمة مزعجة للنفس، يقوم بإقراض الآخرين مستغلا احتياجاتهم المالية الملحة، ويفرض عليهم في الوقت ذاته أسعار فائدة مرتفعة للغاية، لكن لا بديل أمامهم غير التعامل معه، لأنهم – باختصار – لا يستوفون شروط الحصول على قرض بنكي.
بالطبع بنوك الظل أعقد من ذلك بكثير، والمصطلح لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بالشرعية أو عدمها، إنما هي مؤسسات تعد جزءا من النظام المالي، تؤدي وظائف شبيهة بوظائف البنوك مثل الإقراض، لكن لا تطالب بالضمانات ذاتها.
وظهر المصطلح على يد بول ماكولي الخبير الاقتصادي المدير الإداري السابق لشركة بيمكو في 2007، للإشارة إلى المؤسسات غير المصرفية التي تشارك في أنشطة مصرفية مع تدقيق أقل من جانب المنظمين، على الرغم من أن كثيرا من العاملين في هذا القطاع يفضلون مصطلح “التمويل المستند إلى السوق”، إلا أن المصطلح الأكثر انتشارا هو بنوك الظل.
من المؤكد أن الائتمان أو الاقتراض خارج النظام المصرفي ليس من الظواهر الحديثة، إذ وجد دائما مرافقا للبنوك، حتى وإن باتت المصارف العمود الفقري للتمويل الاقتصادي، فقد أدخلت الحكومات قواعد لحماية مدخرات المواطنين، وكبح جماح البنوك والحد من المخاطرة بهدف تحقيق مزيد من الأرباح، وربما شجع ذلك مؤسسات “غير بنكية” على الدخول إلى عالم الإقراض والتمويل، مع تقديم أسعار فائدة أعلى من البنوك وشروط إقراض أيسر.
من جانبه، يقول لـ”الاقتصادية” البروفيسور وليم أستون أستاذ النظم المصرفية السابق في جامعة أكسفورد، “إن بنوك الظل كأي عملة لها وجهان، وغالبا ما ينصب الانتقاد على المؤسسات المالية غير البنكية التي تقوم بعمليات إقراض، ويتم غض الطرف عن الصعوبات والقيود الموجودة في النظم المصرفية الدولية أو المحلية التي لا تساعد الشركات على الاقتراض من القنوات الرسمية”.
ويضيف “الشركات الصغيرة التي تعجز عن الوصول إلى الائتمان المصرفي جزء من المشهد، وتعد ضمن القوى التي تعزز بنوك الظل، فالبنوك عادة تطلب ودائع لمنح القروض، لكن بنوك الظل ربما لا تطلب تلك الضمانات، كما أن بنوك الظل لا تعد منبوذة من النظام المصرفي، فالعلاقة بين القطاع المصرفي المنظم وبنوك الظل قائمة عبر الاقتراض من صناديق رأس المال أو المعاملات المشتقة في صناديق التحوط، ولذلك فإن تلك العلاقة بين الطرفين لا تمثل خطرا في الظروف الاعتيادية، لكن تكون شديدة الخطورة في أوقات الأزمات”.
إحدى المشكلات التي تواجه الخبراء عند التعامل مع تلك القضية، تتعلق باتساع نطاق المؤسسات التي تدخل ضمن دائرة بنوك الظل، فهي تشمل الوسطاء وغرف المقاصة والصناديق وصناديق الاستثمار وأدوات التمويل، وعمليات الرهونات وما يعرف بالإقراض من نظير لنظير، أي أن تقرض شركة شركة أخرى، بل واتسع نطاق التعريف أخيرا ليشمل تجارة الأعمال الفنية.
وتقوم بدور في المزادات الكبرى، بإقراض عملائها ملايين الدولارات لشراء التحف الفنية لضمان استمرار ازدهار الأسواق، ورغم اتساع نطاق المؤسسات التي تقع ضمن بنوك الظل فإن للاسم قناعات غير إيجابية بحيث لم تنجح محاولة مجلس الاستقرار المالي في إعادة تسمية جميع تلك المؤسسات باسم “وسطاء ماليون غير بنكيين” بدلا من بنوك الظل.
ويبرز التحدي الأكبر في قضية بنوك الظل في أنها في الوقت الذي تساعد فيه على النمو الاقتصادي، توجد حالة من عدم الاستقرار المالي، فزيادة إجمالي رأس المال الذي يمثل وعاء يمكن للمقترضين في أي نظام اقتصادي الاقتراض منه أمر مفيد اقتصاديا، حيث يسمح بتوسيع النشاط الاقتصادي. ولا شك أن زيادة الحاجة إلى رأس المال وعدم قدرة البنوك على توفير تلك الاحتياجات كافة، يحدان من هذا التوسع الرأسمالي، وهذا يحفز نشاط المقرضين غير البنكيين.
من جانبه، يوضح لـ”الاقتصادية”، رؤول توم الخبير المصرفي “المشكلة تبرز في أن كثيرا من هؤلاء المقرضين غير البنكيين يقومون بعملية الإقراض دون أن تكون لديهم مصادر تمويل مستقرة، كما أنهم غالبا أقل تحوطا ضد المخاطر الدولية مقارنة بالبنوك، كما أن عملية الإقراض خارج الإطر البنكية الرسمية تزيد من المعروض من رأس المال ومن ثم تسهم في رفع معدلات التضخم”.
ويعتقد رؤول توم أن بنوك الظل تعاني مشكلات رئيسة عندما تتعرض الأسواق للضغط، فاغلب بنوك الظل “غير مهيكلة” والإطار التنظيمي لها يتسم بدرجة عالية من عدم التنظيم في هيكل واحد، ولذلك في فترات انخفاض السيولة وعمليات السحب المالي الكبيرة لا تستطيع مواكبة تلك التحديات وتصاب بالارتباك.
ويضيف “كما أنها لا تمتلك الخبرة في التعامل مع فترات ضعف شروط الائتمان، لأنها في الأساس ليست مؤسسات إقراض، إنما تقوم بأنشطة مالية أخرى، يضاف إلى ذلك أن قنوات تنوع الأرباح لديها لا تتمتع بالتنوع كما هو في النظم البنكية، ولذلك تصاب بخسائر كبيرة عندما تتدهور الأنشطة الرئيسة التي تتعامل فيها”.
بدوره، يبين لـ”الاقتصادية” رولنج دال الخبير الاستثماري، أن “الواقعية الاقتصادية تتطلب منا الإقرار بأن بنوك الظل باتت قوة اقتصادية لا يمكن الاستهانة بها، وأنها تتوسع بسرعة، وقد أدخلت إصلاحات ضخمة على هذا القطاع منذ الأزمة المالية 2008، في مسعى لجعل التمويل غير البنكي أكثر أمانا، وليس للخلاص منه، هذا لا يعني أنه تم إغلاق جميع الثغرات، بالطبع لا، لكنها أقل حدة الآن، والإصلاحات المالية التي اتخذت خاصة في الولايات المتحدة جعلت صناديق أسواق المال أكثر استقرارا”.
ويستدرك قائلا “لكن هذا لا ينفي أنه في لحظات الأزمات الكبرى يتحمل هذا القطاع جزءا كبيرا من الأزمة، آخذا في الحسبان القوة المالية التي يتمتع بها، إذ في آخر مرة قدر فيها حجم الأصول المالية لهذا القطاع كانت في 2019 وقدرت حينها بنحو 52 تريليون دولار بزيادة 75 في المائة عما كانت عليه في 2010، وبنك التسويات الدولية أشار إلى أن التمويل غير المصرفي يمثل الآن ما يقرب من نصف جميع الأصول المالية في العالم، أي نحو 160 تريليون دولار مقارنة بإجمالي الأصول المالية البالغ 340 تريليون دولار على مستوى العالم، لكن بنك التسوية أدخل في هذا المقياس صناديق التقاعد وشركات التأمين والمؤسسات المالية الأخرى ضمن تعريفه لبنوك الظل، موسعا بذلك ماهية بنوك الظل بشكل كبير، تلك القوة المالية توفر مخزونا ماليا ضخما للغاية، لكن في الوقت ذاته تشكل خطرا كبيرا في لحظة تدهور ظروف الائتمان”.
ويعتقد عدد من الخبراء أن قطاع التمويل غير البنكي أو بنوك الظل ستشهد مزيدا من التوسع خلال الفترة المقبلة لعديد من الأسباب.
وتوضح لـ”الاقتصادية”، لورين ريك الخبيرة المصرفية في بنك التسويات الدولية، أن “بنوك الظل ستواصل الانتعاش نتيجة الوضع الاقتصادي، والحرب الروسية – الأوكرانية التي سينجم عنها كثير من المصاعب الاقتصادية والمالية الدولية، وستكون عملية الاقتراض من المؤسسات البنكية أمرا شديد الصعوبة خاصة للشركات الصغيرة، التي سيصعب على كثير منها الوفاء بالشروط التي ستطلبها البنوك للاقتراض، تلك الشركات ستتجه غالبا إلى مؤسسات الإقراض غير الرسمية”.
وأكدت أن التطورات التكنولوجية في عالم المال تسهم أيضا في انتعاش قنوات الإقراض خارج النظم المصرفية، إذ تلاحظ زيادة دولية في الإقراض العقاري غير المصرفي نتيجة سهولة التواصل مع المقرضين غير البنكيين عبر الإنترنت، وكذلك في إقراض الطلاب وبعض القروض الاستهلاكية، وجميعها ازدادت سهولة نتيجة تنامي الشبكة العنكبوتية.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة، يقول الدكتور جيف كوكس أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، “إن هناك حالة من الصمت المتعمد من قبل المنظومة الاقتصادية على بنوك الظل في الأوضاع الاقتصادية الإيجابية، إذ يوفر القطاع نتيجة الأصول التي يمتلكها الشحوم الضرورية للحفاظ على اقتصاد يعمل بسلامة، وتحصل الشركات الصغيرة على القروض التي تحتاج إليها، بينما يحصل المدخرون على عوائد أعلى من البنوك”.
مع هذا يضيف كوكس أن “السياسة الصحيحة في الأجل الطويل هي كبح بنوك الظل، حتى إن كان ذلك سيؤدي إلى إبطاء النمو في الأجل القصير، فمواصلة عملها لا يؤدي فقط إلى عدم الاستقرار المالي، بل يوجد تشوهات هيكلية في نظام الإقراض الدولي، وميكنزمات جديدة، بحيث سيكون هناك نظامان للتمويل بما يوفره ذلك من ارتباك لمنظومة التمويل الدولية”.
مع هذا يرى الخبراء أن الواقعية الاقتصادية تتطلب عدم الاصطدام ببنوك الظل، مع مطالبتها بمزيد من الشفافية المالية والإدارية، خاصة لتوضيح روابط العلاقة بينها وبين النظام المصرفي، مع مطالبة الجهات المسؤولة عن تنظيم القطاع المالي بتنظيم أكثر صرامة لبنوك الظل، بعد أن باتت أكثر أهمية من أي وقت مضى، في معظم عمليات التمويل الأساسية.