آخر الاخباراقرأ لهؤلاء

د. نعمت أبو الصوف يكتب: الطاقة في الدول الغربية .. مفارقات وسياسات هشة

بوابة الاقتصاد

الدول الغربية تعتقد أنها تعرف جيدا ما تفعله وأنها تفعله أفضل من الغير لأنها كانت تفعل ذلك لفترة طويلة. تقريبا تقع جميع الاقتصادات المتقدمة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. لكن في الآونة الأخيرة، انقلب الحال رأسا على عقب في جانب حيوي واحد: سياسات الطاقة. خلال الأعوام القليلة الماضية، ضاعف الاتحاد الأوروبي من طموحه ليصبح أول منطقة خالية من الانبعاثات (صافي انبعاثات صفرية) في العالم. حيث، أضافت دول الاتحاد كميات كبيرة من الطاقة المتجددة، خصصت استثمارات ضخمة في الهيدروجين الأخضر، وكانت تتبنى سياسة بعد سياسة لتثبيط استهلاك الوقود التقليدي.
في الولايات المتحدة، بدأ الاندفاع الكبير نحو مصادر الطاقة المتجددة قبل عامين، بالتحديد عندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه. كان الانتقال من الاقتصاد المعتمد على النفط والغاز إلى الاقتصاد القائم على الطاقة المتجددة مبدأ أساسيا في حملته. وقد بدأ العمل من اليوم الأول، حيث تم حظر خط أنابيب (Keystone XL) من كندا وبعد فترة وجيزة حظر التنقيب عن النفط والغاز مؤقتا على الأراضي الفيدرالية. لكن لمواجهة ضغوط ارتفاع أسعار النفط والغاز، اضطرت الحكومة الأمريكية الأسبوع الماضي إلى استئناف بيع امتيازات النفط والغاز على الأراضي الفيدرالية.
في هذه الأثناء، تم تشكيل تحالف “أوبك +” ليشمل اثنين من أكبر منتجي النفط في العالم – المملكة وروسيا – إضافة إلى منتجي النفط في آسيا الوسطى من الاتحاد السوفياتي السابق، بما في ذلك كازاخستان وأذربيجان.
في هذه الأثناء، تسابق الاتحاد الأوروبي، المملكة المتحدة والولايات المتحدة لبناء المزيد من توربينات الرياح، المزيد من الألواح الشمسية، والمزيد من طاقات التخزين. وتسابقت شركات صناعة السيارات، وجميعها تقريبا في أوروبا أو الولايات المتحدة، على تخصيص عشرات المليارات من الدولارات لكهربة قطاع النقل وتقليل الاعتماد على النفط والغاز.
وبينما كانت الدول الغربية منشغلة بذلك، كانت “أوبك +”، بقيادة المملكة وروسيا، تضخ النفط بالقدر الذي تراه مناسبا لتلبية حاجة السوق وبما يضمن استقرار الأسعار. إضافة إلى ذلك، حافظت روسيا على استمرار صناعة المعادن واليورانيوم واستمرت في إقامة علاقات أوثق مع الشرق الأقصى، مع التركيز على الصين. في غضون ذلك، توسعت المملكة في قطاع التعدين وخصصت عشرات المليارات في مصادر الطاقة المتجددة والاستثمار التكنولوجي الذكي.
ما يعنيه هذا، في الأساس، أنه بينما كان الغرب يركز بحماس على القسم الأخير من سلسلة إمداد الطاقة – توربينات الرياح، والألواح، والمركبات الكهربائية – ركز الشرق، ممثلا في المملكة وروسيا، على القسم الأول ومنتصف سلسلة الإمداد، أي على المواد الخام التي دونها لن يكون من الممكن انتقال الطاقة. أثناء القيام بذلك، استمروا أيضا فيما فعلوه لعقود من الزمن: تزويد العالم، بما في ذلك الاقتصادات المتقدمة، بحاجتها من موارد الطاقة من نفط وغاز.
في الوقت الحالي، تكتشف الدول الغربية مدى أهمية المواد الخام لصناعة الطاقة ككل. الآن لا تستطيع شركات النفط الصخري في الولايات المتحدة زيادة الإنتاج بالسرعة التي تريدها الإدارة الأمريكية لأنها تعاني نقصا في سلسلة إمداد المواد الأولية، رقع الحفر، والاستثمار. في حين، يكافح الاتحاد الأوروبي في ظل عبء متزايد لتكلفة الكهرباء لأن مصادر الطاقة المتجددة لم يتم تطويرها بالكامل بينما كان الاتحاد يحاول تقليل استهلاكه للوقود التقليدي. الآن، هذا الاستهلاك آخذ في الارتفاع، لكنه أيضا أكثر تكلفة بكثير مما كان عليه بسبب نقص العرض. ومن المفارقات أن انبعاثات الاتحاد الأوروبي هي أيضا في ارتفاع.
تتطلع الإدارة الأمريكية إلى استيراد المزيد من النفط الكندي، لكن خط أنابيب (Keystone XL) الذي كان من الممكن أن يفعل ذلك قتل من قبل الإدارة نفسها. تريد الإدارة أيضا إنتاجا محليا أكثر للمعادن المهمة ولكن يبدو أنها لا تريد المناجم التي ستكون ضرورية للقيام بذلك. ما لا تريده، على ما يبدو، هو النفط والوقود الروسي وسط الأزمة الأوكرانية، لكنها لن تعلق هذه الواردات إلا اعتبارا من 22 نيسان (أبريل)، حتى تتمكن من التخزين قبل ذلك.
في أوروبا، كان السياسيون نشيطين بالقدر نفسه في فرض عقوبات على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية. حتى الآن، فرضت خمس حزم من العقوبات التي قال كثيرون مازحين إنها أضرت بالاتحاد الأوروبي أكثر مما أضرت بروسيا. هناك بعض الحقيقة في هذا الجانب: ارتفعت أسعار الطاقة في الاتحاد الأوروبي بشكل كبير وبقيت عند مستويات عالية غير مسبوقة، وتحذر الصناعات من أنها قد تضطر إلى الإغلاق إذا فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على الغاز الروسي أو إذا قررت روسيا وقف الإمداد ردا على ذلك، ما أدى إلى وقفات احتجاجية في بعض دول الاتحاد.
ومع ذلك، يتحدث المسؤولون في الاتحاد الأوروبي عن عقوبات النفط والغاز، وقد صوتوا الأسبوع الماضي فقط لحظر واردات الفحم الروسي، ليدخل حيز التنفيذ اعتبارا من منتصف آب (أغسطس). تزود روسيا أوروبا بنحو 45 في المائة من الفحم الحراري، المستخدم في توليد الكهرباء والحرارة. ويسارع الاتحاد الأوروبي الآن إلى إيجاد بديل، بينما ترفع إندونيسيا، أكبر مصدر للفحم في العالم، أسعاره بشكل كبير، وتحذر أستراليا، عملاق الفحم الآخر، من أنه لن يكون لديها ما يكفي لأوروبا. في هذا الجانب، قال رئيس فريق أبحاث سوق الطاقة في “ريستاد إنرجي”: إن “هذه العقوبات الأخيرة سيف ذو حدين، إذ تقدر قيمة صادرات الفحم الروسية بنحو أربعة مليارات يورو سنويا، ولا يوجد بديل سهل للفحم الروسي في مزيج الطاقة في أوروبا”.
بدأت الدول الغربية تستيقظ على حقيقة مؤلمة بسيطة للغاية. هذه الحقيقة هي أن من يتحكم في المواد الخام يتحكم في كل شيء.

زر الذهاب إلى الأعلى