آخر الاخبارأسواق

الحرب تعيد رسم خريطة تجارة الحبوب في العالم

بوابة الاقتصاد

حذرت الأمم المتحدة من ارتفاع الأسعار بأكثر من 22 في المئة

عبر حزام المَزارع في أوكرانيا، تمتلئ الصوامع بـ15 مليون طن من الذرة من حصاد الخريف، والتي كان من المفترض أن يصل معظمها إلى الأسواق العالمية، لكن مع الاجتياح الروسي للبلاد أصبح من الصعب على المشترين الحصول على المخزونات، بخاصة وأن أوكرانيا كانت تستعد لتصدير نحو نصف إجمالي صادرات الذرة في العالم لهذا الموسم- مما يوفر لمحة عن الأضرار التي أحدثتها الحرب الروسية، على إجمالي تجارة الحبوب عالمياً التي تبلغ قيمتها حوالى 120 مليار دولار، بحسب “بلومبيرغ”.
الأزمة الغذائية التي خلفتها الحرب الروسية على أوكرانيا، دفعت الأسواق إلى التأهب لمزيد من الاضطرابات في سلسلة التوريد وأسعار الشحن، ناهيك عن الظواهر الجوية الخارجة عن إرادة المزارعين، وعلى الرغم من الاستعداد لتنفيذ عمليات التسليم من أوكرانيا وروسيا- اللتان تشكلان معاً نحو ربع تجارة الحبوب في العالم، فإن الأمور تتحول إلى مزيد من التعقيد في وقت يلوح فيه شبح نقص الغذاء في بلدان عدة.
فقبل هجوم روسيا، كانت الذُرة الأوكرانية تشق طريقها إلى موانئ البحر الأسود مثل أوديسا وميكولايف بواسطة سكك الحديد، ويتم تحميلها على متن سفن متجهة إلى آسيا وأوروبا. ولكن مع إغلاق الموانئ، فإن كميات صغيرة من الذُرة تتجه اليوم نحو الغرب بالسكك الحديد عبر رومانيا وبولندا قبل شحنها. وعلى عكس سكك الحديد الأوروبية، تسير عربات القطارات الأوكرانية على مسارات أوسع تعود إلى الحقبة السوفياتية.

وقالت كاترينا ريباتشينكو، نائبة رئيس نادي الأعمال الزراعية الأوكراني، في مقابلة مع “بلومبيرغ”، “لا يُفترض أن تسير سكك الحديد على هذا النحو، وهذا يجعل الخدمات اللوجيستية بأكملها باهظة الثمن وغير فعّالة، كما أنها بطيئة للغاية. من الناحية اللوجيستية، إنها مشكلة كبيرة”.
وأوكرانيا واحدة من أكبر مصدري الذرة والقمح وزيت عباد الشمس في العالم، والتي تعطلت تدفقاتها إلى حد كبير. وتقول وزارة الزراعة الأوكرانية، إن صادرات الحبوب محدودة حالياً بـ500 ألف طن شهرياً، بعدما كانت عند 5 ملايين طن قبل الحرب، بخسارة قدرها 1.5 مليار دولار. فيما لا تزال المحاصيل من روسيا- أكبر مُصدر للقمح في العالم- تتدفق، لكن الأسئلة لا تزال قائمة حول التسليم والدفع مقابل الشحنات المستقبلية.

اضطرابات تدفق الحبوب

وفي حين تؤدي الاضطرابات في تدفقات الحبوب والبذور الزيتية- وهي مواد أساسية للمليارات من البشر والحيوانات في كل أنحاء العالم- إلى ارتفاع الأسعار، تتدافع البلدان التي تخشى احتمال حدوث نقص في الغذاء للعثور على موردين بديلين، إضافة إلى أن تداولات جديدة آخذة في الظهور.
فالهند حافظت تاريخياً على محاصيلها الضخمة من القمح في الداخل، وبفضل السعر الذي حددته الحكومة الهندية، تقفز اليوم إلى سوق التصدير، وتبيع كميات قياسية في كل أنحاء آسيا. وتجاوزت صادرات نيودلهي من القمح في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، صادرات البرازيل المسجلة في العام الماضي بأكمله. كما تتجه شحنات الذُرة الأميركية إلى إسبانيا لأول مرة منذ حوالى أربع سنوات. وتفكر مصر في استبدال الأسمدة بحبوب رومانية وإجراء محادثات بشأن القمح مع الأرجنتين.
وقال دان باس، رئيس “أغريسورزيز”، وهي شركة أبحاث أسواق الزراعة، “حتى تلك الجهود قد لا تكون جيدة بما يكفي”. وأضاف، “يمكننا أن نشعر بالراحة اليوم، ولكن إذا امتد الصراع الروسي- الأوكراني إلى الصيف، عندما تتسارع صادرات القمح من البحر الأسود، عندئذ نبدأ بالوقوع في المشاكل”. وتابع، “هذا هو الوقت الذي يبدأ فيه العالم في رؤية أوجه القصور”.

الموردون البديلون وتضخم الأسعار

ويأتي الموردون البديلون بشحنات أغلى، أو من خلال مدة عبور أطول أو جودة مختلفة، مما يؤدي إلى تسريع تضخم أسعار المواد الغذائية. فقد كانت الإمدادات العالمية تعاني بالفعل من الجفاف في كندا والبرازيل، وعرقلة النقل في أجزاء من العالم، بسبب ازدحام سكك الحديد في الولايات المتحدة وإضرابات سائقي الشاحنات في إسبانيا. وأدت الصدمة الإضافية جراء الحرب الروسية على أوكرانيا إلى ارتفاع مقياس الأسعار إلى مستوى قياسي، مع مستقبل الذرة والقمح في شيكاغو بنسبة تزيد على 20 في المئة منذ بداية العام.
من جانبها، حذرت الأمم المتحدة من أن أسعار المواد الغذائية- التي وصلت بالفعل إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق- قد ترتفع بنسبة تتجاوز 22 في المئة. وقالت إن التراجع الحاد في صادرات البحر الأسود قد يترك ما يصل إلى 13.1 مليون شخص إضافي يعانون من نقص التغذية، مما يزيد ارتفاع معدلات الجوع في العالم، في عالم لا يزال يتعافى من آثار وباء فيروس كورونا.

الهند وصادرات قياسية

وقال نيليش شيفاجي شيدج الذي يزرع القمح في خمس من 15 فداناً تملكها عائلته، “في الوقت الحالي، يتدخل موردون آخرون نتيجة ارتفاع الأسعار”. وعززت الهند، ثاني أكبر منتج للقمح بعد الصين، صادراتها من القمح، التي ربما وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 8.5 مليون طن في الموسم المنتهي الشهر الماضي.
ويعج ميناءي كاندلا وموندرا في ولاية غوجارات الغربية في الهند، وهما المداخلان الرئيسان لتصدير القمح، بالنشاط مع ارتفاع المبيعات، فيما تعمل الحكومة على توفير المزيد من سعة سكك الحديد لنقل القمح، بينما طُلب من سلطات الموانئ زيادة عدد المحطات والحاويات المخصصة لنقل القمح. كما تستعد بعض الموانئ على الساحل الشرقي الهندي و”ميناء جواهر لال نهرو” في مومباي للتعامل مع شحنات القمح.
وقال بيوش جويال، وزير الغذاء والتجارة الهندي، الأحد الماضي، “سنواصل تصدير القمح بشكل كبير لتلبية الاحتياجات في البلدان التي لا تحصل على إمدادات من مناطق الصراع، فيما يركز مزارعونا على زيادة الإنتاج”. وقال فوزان علوي، مدير “مجموعة علانا”، التي تتاجر في السلع الزراعية منذ عام 1865 لـ”بلومبيرغ”، إن “الهند تفاوض للوصول إلى الأسواق في مصر وتركيا والصين، وثلاثة من أكبر أربعة مستوردين ومشترين محتملين آخرين، بما في ذلك البوسنة ونيجيريا وإيران، وفقاً لوزارة التجارة الهندية”. وأضاف علوي، أن “الصادرات الهندية يمكن أن تلامس بسهولة 12 مليون طن في موسم 2022-2023 الذي بدأ هذا الشهر”.

زيادات قياسية في مبيعات الحبوب

وتتوقع البرازيل تحقيق صادرات أعلى من الحبوب خلال عقد من الزمان، في حين أدى انخفاض مستويات الأنهار في الأرجنتين المجاورة إلى دفع المبيعات نحو ولاية ريو غراندي دو سول في البرازيل. وأدى الحصاد الوفير والعملة الضعيفة ومحصول فول الصويا المتأخر الذي أتاح وقتاً إضافياً لتدفق القمح، إلى زيادة المبيعات، وفقاً لما قاله والتر فون موهلين فيلهو، المتداول في شركة “سيرا مورينا كوميديتيز”.
ومن المقرر أن يصل إجمالي صادرات القمح من البرازيل إلى 2.1 مليون طن في الأشهر الثلاثة الأولى من العام، أي حوالى ضعف الكمية المسجَلة في عام 2021 بالكامل. وتشمل وجهات التصدير، تركيا وجنوب أفريقيا والسودان، وذلك لأول مرة منذ أربع سنوات على الأقل، وفق بيانات من مفوضية التجارة الخارجية في البرازيل “سيكريترايا دي كوميرسيو إكستيريور”.
كما تشهد أستراليا، وهي مُصدرة كبيرة للقمح، زيادة لافتة في المبيعات، مع حجز فترات الشحن لشهور، والمشترين يبتاعون الحبوب أكثر من المعتاد.

أكبر تقلص لتجارة الحبوب خلال عقد

وتقوم بعض الحكومات بتقييد التجارة لمواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية، حيث منعت صربيا، الصادرات مؤقتاً. وزادت الأرجنتين وإندونيسيا الضرائب على صادرات الزيوت النباتية، وستحد كازاخستان من شحنات القمح. ويمكن أن تتقلص تجارة الحبوب عالمياً، باستثناء الأرز، بمقدار 12 مليون طن هذا الموسم، وهو الأكبر خلال عقد على الأقل، وفق مجلس الحبوب الدولي. وقال مايكل ماغدوفيتز، كبير المحللين في “رابوبانك”، إن “الأسعار المرتفعة في كثير من الأحيان، بدلاً من مجرد وجود المزيد من المُصدرين، ستؤدي إلى الحمائية”.
في غضون ذلك، يخفف المستوردون القيود للحصول على الحبوب من مصادر أكثر، فقد خففت إسبانيا- المشتري الثاني للذرة من أوكرانيا- القواعد بشأن مبيدات الآفات، للسماح باستيراد الذرة من الأرجنتين والبرازيل. كما حصلت أيضاً على 145 ألف طن من الذرة من الولايات المتحدة في مارس (آذار)، وهي أول شحناتها منذ عام 2018، وزادت الصين، وهي زبون رئيس آخر للذرة في أوكرانيا، من مشترياتها الأميركية.
وقال ناثان كوردييه، الباحث في مؤسسة “أغريتيل” في باريس، إنه “بينما يساعد ذلك في تضييق الفجوة، إلا أن هناك مجال ضئيل للخطأ”. وأضاف أن “أي طقس سيئ في نصف الكرة الشمالي قد يعني تقليص الإمدادات للمزارعين الذين يطعمون الحبوب للخنازير والدجاج”.

مصانع الأعلاف تغلق أبوابها في إيطاليا

وقال ألكسندر دورنج، الأمين العام لمجموعة صناعة الأعلاف الأوروبية، إن بعض مصانع الأعلاف في جنوب إيطاليا أغلقت أبوابها بسبب نقص الحبوب. وإنه يتم حجز التوريد من الولايات المتحدة، فيما يحتاج التوريد من الأرجنتين، لـ10 أيام.
وقالت الرابطة الوطنية الإيطالية لمنتجي الأغذية الحيوانية (أسالزو)، إن بعض مربي الماشية يقتلون قطعانهم، بدءاً من الأبقار المنتجة للحليب. وقال جوليو أوساي، وهو مسؤول تنفيذي في الرابطة، في مقابلة، إنهم يحصلون على أكثر من 5 ملايين طن من الذرة سنوياً من الخارج، ويكافح المنتجون لدفع فواتيرهم مع ارتفاع تكلفة الحبوب. وأضاف، أن مربي الماشية لا يتلقون أي إمدادات تقريباً الآن من روسيا أو أوكرانيا بسبب الحصار في البحر الأسود. وقال إن الجهود تُبذل للحصول على مُصدرين من الأميركيتين، لكن العملية “ستستغرق وقتاً”، منوهاً بأن مربي الخنازير قد يكونون في خطر.
وقال ميغيل أنخيل هيغويرا باسكوال، مدير مجموعة تربية الخنازير الإسبانية (أنبروجابور)، “هذه هي الأشياء التي نحاول إدارتها- كيف يمكننا تغيير أصل منتجنا من أجل الحصول على ما نحتاجه؟ هذا هو الوضع الذي لدينا الآن، لمحاولة إعادة التكيف”.

الشرق الأوسط والإمدادات الروسية- الأوكرانية

ويعتمد المستوردون من شمال أفريقيا والشرق الأوسط بشكل خاص على الإمدادات الروسية والأوكرانية ويكافحون لإيجاد بدائل. إذ فتحت الجزائر أبوابها لقمح البحر الأسود العام الماضي فقط، وعادت بالفعل إلى الشحنات الفرنسية. كما يتعين على مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، مع أكثر من 80 في المئة من وارداتها من روسيا وأوكرانيا على مدى السنوات الخمس الماضية، على تقليص المشتريات مع ارتفاع الأسعار. وألغت مصر مناقصتين متتاليتين للاستيراد حيث جفت العروض وارتفعت الأسعار بنحو 100 دولار للطن، بما في ذلك الشحن. وهي تؤجل المزيد من العطاءات حتى منتصف مايو (أيار) المقبل على الأقل، وفقاً لوزير التموين والتجارة الداخلية المصري علي المصيلحي. وتكافح البلاد للحفاظ على برنامج دعم الخبز الذي يستخدمه حوالى 70 مليوناً من مواطنيها.
ومع عدم وجود علامات على أن أزمة الإمداد ستخف في أي وقت قريب، توقعت شركة الخدمات المصرفية الهولندية “رابوبنك” في مارس (آذار) الماضي، أن يصل متوسط العقود الآجلة للقمح إلى 11 دولاراً أو أكثر للبوشل (أداة قياس بريطانية وأميركية للكميات من المواد الجافة) حتى نهاية العام، والذرة بحوالى 7.75 دولار للبوشل أو أعلى. وهي زيادة بنسبة 30 في المئة أو أكثر مما كانت عليه في نهاية عام 2021. وأخبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المشرعين الهولنديين، الخميس الماضي، أن “الروس يفعلون كل شيء لتدمير زراعتنا”.
على الأرض، يكافح المزارعون للحصول على الأسمدة لمحاصيل القمح المزروعة في الخريف مع خروجهم من سبات الشتاء. ومن المُقرر أن تنخفض زراعة المحاصيل الربيعية الرئيسة مثل الذرة وعباد الشمس، حيث يتعامل المنتجون مع نقص الديزل والجرارات المسروقة.
وقال ريباتشينكو من النادي الزراعي الأوكراني، “نأمل جميعاً أن تنتهي هذه الحرب قريباً، وأن تفتح الموانئ”. وأضاف، “نشعر بالمسؤولية، ليس فقط عن سلامة الغذاء داخل أوكرانيا، ولكن أيضاً عن سلامة الغذاء في العالم”.

زر الذهاب إلى الأعلى