فرص ذهبية أمام الهند للنهوض الاقتصادي خلال 5 أعوام .. هل تنجح في تجاوز النمو الصيني؟
بوابة الاقتصاد
منذ 1991 سعت الحكومات الهندية المتعاقبة إلى تحرير الاقتصاد الوطني، وتبني سياسة السوق الحرة.
فزادت من انفتاحها في مجال التجارة الخارجية، وأقرت سلسلة من السياسات والقوانين المشجعة للاستثمارات الأجنبية، وفتحت الطريق للرأسمالية الوطنية والقطاع الخاص للمساهمة بدرجة أكبر في عملية التنمية، وكثفت الإنفاق الحكومي في مجال البنية التحتية، باعتباره أحد العوامل الرئيسة لرفع مستوى معيشة السكان، وتعزيز المسار الاقتصادي الرامي إلى زيادة معدلات النمو.
ومع ذلك لا يزال الاقتصاد الهندي يواجه مشكلات وتحديات مختلفة من أبرزها قصور البنية التحتية، والفقر المستشري في المناطق الريفية، والعجز عن استخدام جميع الموارد المتاحة بالصورة المثلى خاصة في ظل ضعف معدلات تحصيل الضرائب.
تلك المشكلات وغيرها وعلى الرغم من أنها ذائعة الانتشار في عديد من الاقتصادات التي تسعى إلى كسر حلقة الفقر، فإن القلق يزداد بشأن الاقتصاد الهندي في ظل المشكلات الناجمة عن جائحة كورونا، وما تلاها من تبعات الحرب الروسية – الأوكرانية، وقد دفع ذلك بعدد من الخبراء إلى الإعراب عن مخاوفهم من أن يكون الاقتصاد الهندي عالقا في دوامة من البطالة والتضخم المرتفع والطلب المنخفض وتراجع في المدخرات والاستثمار في آن.
وربما تعد مشكلة البطالة على وجه الخصوص، أبرز مظاهر القلق الاقتصادي في الهند، إذ تترافق تلك الظاهرة مع اعمال شغب واسعة النطاق تعد بمنزلة مؤشر صارخ على غضب شعبي وجماهيري، وهو ما يعزز مخاوف رجال الأعمال سواء على المستوى الوطني أو المستثمرين الأجانب، خاصة أن معدل البطالة بلغ في يناير الماضي 6.57 في المائة أي ما يعادل 53 مليون شخص من بينهم نسبة كبيرة من النساء، وقد انخفض معدل المشاركة في القوى العاملة من 58 في المائة 2005 إلى 40 في المائة فقط 2021 وهو أحد أدنى المستويات في العالم.
تزداد القضية حدة في ظل غياب أي مؤشر على أن نسبة البطالة ستنخفض بشكل مقبول في المستقبل المنظور، كما أن معدل التضخم آخذ في الارتفاع أيضا، ما يعوق من وجهة نظر البعض الانتعاش الاقتصادي الذي راهن عليه الخبراء في أعقاب تراجع جائحة كورونا.
مع هذا يراهن قطاع من الخبراء على قدرة المشاريع متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة على إخراج الاقتصاد الهندي من عثرته، وسط دعوات متزايدة بالاهتمام بتلك القطاعات ليس كبديل للصناعات الكبيرة، لكن باعتبارها أحد الأعمدة الرئيسة للمنظومة الاقتصادية الهندية، خاصة أن المشاريع متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة تسهم بنحو 45 في المائة من الإنتاج الصناعي، وأكثر من 40 في المائة من الواردات وأكثر من 28 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، لتوفر بذلك فرص عمل لأكثر من 110 ملايين شخص، ولتحتل المرتبة الثانية من حيث الحجم بعد الاقتصاد الزراعي.
ويعتقد بعض الباحثين أن ارتفاع معدلات البطالة والتضخم في الهند الذي تجاوز 6 في المائة بقليل في شباط (فبراير) الماضي، يعزز مجموعة من المشكلات البنيوية في الاقتصاد الهندي التي قد تحد من قدرته على الانطلاق لفترة طويلة.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية” توماس راسل الباحث الاقتصادي، “البطالة والتضخم يؤديان إلى تآكل المدخرات خاصة لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والنتيجة زيادة عدم المساواة الاجتماعية، وما تخلفه من استقطاب اقتصادي واجتماعي، وتحد من القدرة الاستهلاكية للمجتمع، وتزيد الاعتماد على التصدير والاقتصادات الخارجية، أكثر من البناء على القدرة الوطنية للمستهلكين”.
وبالفعل فإن تقرير عدم المساواة العالمي الصادر أخيرا، اعتبر الهند من أكثر دول العالم تمايزا طبقيا وتحديدا بين القطاعات العريضة من الفقراء من جانب والنخب الثرية من جانب أخر، حيث تسيطر نسبة 1 في المائة الأعلى من السكان على 22 في المائة من الدخل القومي، بينما يمتلك 50 في المائة الأدنى ما يعادل 13 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي.
تلك العوامل الاقتصادية الضاغطة، لا تساعد ناريندار مودي رئيس الوزراء الهندي على تحقيق طموحاته، فقد أعلن 2019 أنه سيبني اقتصادا هنديا بقيمة خمسة تريليونات دولار بحلول 2025، لكن هذا الهدف لا يبدو واقعيا في الوقت الراهن، حيث لا تتجاوز قيمة الناتج الهندي 3.1 تريليون دولار، وربما يتطلب الأمر ما بين ثلاثة إلى خمسة أعوام إضافية لتحقيق رئيس الوزراء الهندي لهدفه إن لم يكن أكثر من ذلك.
تبدو المشكلة الكبرى أن الهند لم تفلح في تعظيم نقاط القوة الاقتصادية لديها، تحديدا التركيبة السكانية الضخمة، حيث أكثر من ثلثي سكانها البالغ عددهم نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة تقريبا هم في سن العمل، ما يوفر قوة عمل منخفضة الأجر نسبيا، كما أن الطابع الشبابي للمجتمع الهندي يمنحه أيضا قوة عمل قادرة على الأداء مقارنة حتى بمجتمعات أكثر تقدما من الهند، يضاف إلى ذلك أن العدد السكاني الضخم يفترض أن يوجد طلبا محليا كبيرا، يسهم في جر القاطرة الاقتصادية بشكل قوي، خاصة عندما تتراجع معدلات التصدير.
ولـ”الاقتصادية” يعلق البروفيسور موهان راول أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة لندن قائلا “التأثير الضار لجائحة كورونا والتداعيات المتوقعة للحرب الروسية الأوكرانية خاصة أن علاقة الاقتصاد الهندي بالاقتصاد الروسي علاقة قوية، تركت وستترك بصماتها على الاقتصاد الهندي، إلا أن المشكلات كانت واضحة في المنظومة الاقتصادية قبل انتشار الوباء والحرب”.
ويضيف “منذ الخطوة غير المدروسة في 2016 التي ألغت فيها الهند الفئات النقدية الكبيرة بدعوى مكافحة الفساد والفاسدين، فإن جميع محركات النمو الاقتصادي وتحديدا الاستهلاك والاستثمار الخاص والصادرات ضعيفة، وفشلت الحكومة في توفير حوافز مالية كبيرة لإنهاء التباطؤ”.
إدراكا من الحكومة الهندية لحقيقة الوضع فإنها تقدمت في الأول من فبراير الماضي بميزانية ترمي إلى تحفيز القطاع العام، وزادت من الإنفاق العام إلى 528 مليار دولار في العام المالي المقبل، لتعزيز الاستثمار في البنية التحتية، على أمل أن يساعد ذلك على رفع معدلات التوظيف والحد من التضخم نسبيا، لكن هذا أوقعها في فخ العجز المالي الذي يتوقع أن يبلغ نحو 6.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم زيادة معدلات الاقتراض إلى مستويات قياسية غير مسبوقة.
نتيجة لذلك بدأ القلق يتسرب إلى المستثمرين من احتمال أن تجد الأفكار الخاصة بالحمائية الاقتصادية والتجارية رواجا، وأن تحل محل اندماج الهند المتزايد في سلاسل التوريد العالمية، هذا القلق مبعثه إلى حد ما قيام الحكومة الهندية بفرض أكثر من ثلاثة آلاف زيادة في الرسوم الجمركية أثرت في 70 في المائة من واردات الهند.
مع هذا يرى روبرت دوفار الخبير الاستثماري، أن الهند لا تزال أمامها فرص ذهبية للنهوض الاقتصادي في الأعوام الخمسة المقبلة، فالاستثمارات الأجنبية لا تزال تتدفق عليها خاصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات، وعلى الرغم من أن تلك الاستثمارات توجد قليلا من الوظائف، إلا أنها تعزز موقع الهند في تكنولوجيا المعلومات، وتجعل منها قطبا دوليا رائدا في هذا المجال.
من هنا يشير لـ”الاقتصادية” روبرت دوفار الخبير الاستثماري “أغلب التقديرات الدولية إيجابية بشأن معدل النمو الاقتصادي لدى الهند هذا العام، إذ سيبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي وفقا لتقديرات البنك الدولي 8.3 في المائة و10 في المائة وفقا لبنك التنمية الاسيوي، بينما في العام المالي 2023 ستكون معدلات النمو أقل نسبيا، وستراوح بين 7.5 و7.9 في المائة”.
على أي حال لا تزال لدى الهند – رغم الصعوبات التي تواجهها – فرصة لأن تصبح رائدة النمو الاقتصادي العالمي، وأن تتجاوز معدلات النمو لديها الصين ابتداء من العام الجاري ولمدة خمسة أعوام مقبلة.
لكن إن لم تحافظ على معدلات نمو تبلغ 9 في المائة سنويا أو أكثر، فإنها تخاطر بإيجاد كتلة من الشباب وذوي التعليم الضعيف والعاطلين عن العمل، التي يمكن أن تكون سببا في إرهاق الاقتصاد الكلي، وتأجيل طموحاتها الاقتصادية، وأبرزها أن تكون قادرة على منافسة الصين يوما ما.