آخر الاخباراقرأ لهؤلاء

محمد كركوتي يكتب: الأجور والمدخرات في قلب أزمة

بوابة الاقتصاد

“كان العالم يحقق نموا كبيرا مذهلا بعد الجائحة، إلى أن أتت الحرب في أوكرانيا”
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي

يسيطر التضخم على المشهد العالمي، حتى صار هما لدى واضعي السياسات الاقتصادية حول العالم. فقد وصل إلى أعلى مستوى له منذ عام 2008 عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية، حتى بلغ في بعض الاقتصادات المتقدمة “بمن فيها الولايات المتحدة وبريطانيا” أعلى المستويات منذ أكثر من أربعة عقود. وإذا كان بإمكان الدول المتقدمة أن تواجه هذه الأزمة وتعالج ما يمكن وصفه بـ “تآكل الدخل والمدخرات”، فإن الدول الفقيرة تقف عاجزة عن ذلك، لأسباب عديدة في مقدمتها أنها تعاني أصلا اضطرابات اقتصادية، وارتفاعا هائلا لديونها، والآثار التي تركتها جائحة كورونا على اقتصاداتها، ومن الانعكاسات السريعة المباشرة للحرب الروسية – الأوكرانية التي تجري في أوروبا حاليا. العوامل كثيرة، والأدوات قليلة أمام هذه الدول في مواجهة ما يجري من تداعيات حاليا ضمن نطاقاتها المحلية.
زيادة الأسعار شملت كل الدول دون استثناء، حتى إن بلدا كفرنسا قرر أن يوزع بطاقات استهلاكية مجانية من أجل دعم الأسر، تماما كما كان يجري خلال الحرب العالمية الثانية، والحروب الأخرى التي مر بها العالم. وفي بريطانيا “مثلا”، ارتفع عدد ما يعرف بـ “بنوك الطعام” في كل أرجاء البلاد. وفي الولايات المتحدة تتقدم الحكومات المحلية فيها بمبادرات متنوعة للتخفيف من حدة ارتفاع أسعار السلع على مواطنيها. فالأسعار المرتفعة لم تعد محتملة في الدول الأعلى دخلا، فكيف الحال بدول فقيرة لا تزال تحاول أن تتجاوز تبعات جائحة كورونا؟ مع ضرورة الإشارة إلى أنها استفادت بالفعل في الأعوام الماضية من تسهيلات كبيرة عبر اتفاقات تجارية، استهدفت أساسا تخفيف الضغوط على الاقتصادات التي تعاني أزمات مستفحلة أو طويلة الأمد.
المؤسسات الاقتصادية الدولية لم تتوقف منذ مطلع العام الجاري عن تحذيرات متواصلة بشأن ارتفاع الأسعار، بما فيها التقرير الأخير للبنك الدولي الذي أشار إلى أن “معدلات التضخم تسير نحو مستويات مرعبة، وسيلحق الضرر بالجميع”. والأسباب متعددة، على رأسها بالطبع الحرب الدائرة في أوروبا الآن، إلى جانب عامل أساسي كان موجودا قبل هذه الحرب، وهو اضطراب خطير في سلاسل التوريد، حيث صارت إمكانية التخلص من هذا الاضطراب مسألة معقدة وتتطلب وقتا أطول مما توقعته كل الحكومات قاطبة. فالتضخم تجاوز في كل الدول دون استثناء المستويات المستهدفة بدرجات مرتفعة. لكن تبقى ساحات الدول النامية وتلك التي توصف بالأشد فقرا البيئة الأخطر له، أو لنقل الميدان الأكثر رعبا، ولا سيما لو أضفنا العامل الخاص بالقيود التجارية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، بفعل الجائحة والحرب في أوكرانيا.
أسعار السلع ولا سيما الغذائية ارتفعت للسبب المعروف للجميع. فأوكرانيا وروسيا دولتان مصدرتان لسلع أساسية “حبوب، سماد، معادن” بما في ذلك النفط والغاز، وتأخر الإمدادات منهما، وإمكانية توقفهما في أي لحظة يجعلان المشهد العام أشد رعبا. والمسألة في الدول الأقل دخلا، فإن اضطراب الإمدادات إلى جانب ارتفاع الأسعار سيؤديان حتما إلى التعرض لخطر الجوع وانعدام الأمن الغذائي، وهذا ما يؤكده البنك الدولي. والوضع العام أدى بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى التأكيد علنا أن دولا فقيرة ستواجه خطر المجاعة بالفعل، إذا لم يتم تأمين إمدادات الغذاء، حتى بالشكل المضطرب الراهن. حتى إنه سمى أسماء لدول بعينها. ويعتقد أيضا، أن من المرجح نشوء أزمة غذاء في إفريقيا والشرق الأوسط، خلال الأشهر الـ 12 إلى الـ 18 المقبلة.
وبعيدا عن هذه التوقعات التي تستند بالفعل إلى أسس قوية، فإن ارتفاع الأسعار حاليا، بدأ يقضم من الأجور والمدخرات. ماذا يعني ذلك؟ سيدخل ملايين الأشخاص إلى براثن الفقر. وهذا لا ينطبق فقط على الدول الأشد فقرا. فقد أظهرت الإحصاءات الأخيرة أن شرائح متزايدة من السكان في الدول المتقدمة دخلت ساحة الفقر، بصرف النظر عن تفاوت مفهوم الفقر بين هذه الدول والدول الفقيرة. فتضخم الأسعار في الدول المنخفضة الدخل يعد “بحسب خبراء” نوعا من أنواع الضريبة التنازلية، خصوصا أن الغذاء يمثل حصة أكبر كثيرا من متوسط سلة استهلاك الأسر في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية. الخوف في الوقت الراهن أن يواصل التضخم صعوده، حيث يتحول إلى حقيقة ثابتة لفترة طويلة في المستقبل، الأمر الذي سيعمق المشهدين الاجتماعي والاقتصادي في الدول الأشد فقرا.
لا شك أن الدول الفقيرة تسعى بكل ما لديها من إمكانات إلى “الانتصار” في هذا الجانب الحيوي الخطير الذي يرتبط مباشرة بالاستقرار السياسي والاجتماعي مثلما يختص بالاقتصادي. لكن لا يبدو المشهد براقا على الأقل في الوقت الراهن. فتآكل الأجور والمدخرات، لا يمكن تعويضه في مدة زمنية بسيطة، خصوصا إذا ما كان النمو الاقتصادي مضطربا أصلا، مع ارتفاع ملحوظ لتوجهات حمائية على الساحة الدولية، في ظل عالم اضطرب كثيرا بفعل جائحة، ويضطرب حاليا بفعل حرب في أوروبا.

زر الذهاب إلى الأعلى