صناعة الصلب تعيد ترتيب أوراقها بعد انتعاش الطلب المكبوت .. نجم الهند يبرز أمام الصين
بوابة الاقتصاد
بأسماء المعادن سميت العصور البشرية، حيث هناك عصر برونزي وآخر حديدي، وإذا كان لنا أن نسمي عصرنا الحالي فهو بامتياز العصر الفولاذي، قد يتحدث البعض عن التكنولوجيا ودورها الطاغي في الحياة الراهنة، وهذا لا يمكن إنكاره، ولكن كل ما وصلنا إليه من التكنولوجيا، لم يكن من الممكن تحقيقيه إلا بعد أعوام طويلة سيطر فيها الفولاذ، ولا يزال على المسيرة الاقتصادية والحضارية.
الصلب والفولاذ “صلب مقاوم للصدأ” أساس المدن الحديثة والمباني الشاهقة والجسور الضخمة والصناعة المتنوعة، وتبدو أهميته إلى الحد، الذي يعد معدل إنتاجه واستهلاكه مؤشرا على مستوى تنمية الدول، فهو المعدن الأكثر استخداما في العالم، وأكثر المواد المعاد تدويرها، حيث إنه في 2020 أنتج العالم 1864 مليون طن متري من الفولاذ الخام.
ولمعرفة أهمية الصلب يكفي القول إن الإنتاج العالمي منه تضاعف بأكثر من ثلاث مرات خلال نصف القرن الماضي، وذلك على الرغم من قيام الولايات المتحدة وروسيا بتقليص الإنتاج المحلي، والاعتماد على الواردات، بينما نما إنتاج الصين والهند لتصبحا أكبر دولتين منتجتين للصلب.
لكن هيمنة الصين الحالية على السوق باتت محل تساؤل مع تقليص إنتاجها من الصلب المحلي للحد من مخاطر الإفراط في الإنتاج، وضمان الوصول إلى الحياد الكربوني 2060، كما تعهدت دوليا، لكن هذا الموقف الصيني أثار تساؤلات حول أسعار المعدن الأكثر أهمية في الحياة المعاصرة، وكيف يمكن أن يؤدي ارتفاع الأسعار ونقص الإنتاج إلى تبعات قد تمس عديدا من مناحي الحياة.
المهندس بيتر جلين من الرابطة الدولية لمنتجي ومصدري حديد التسليح يعتقد أن آفاق أسواق الصلب العالمية طويلة الأمد لا تزال جيدة، وأن نتائج الربع الأول من هذا العام ستكون مرضية.
ويؤكد لـ”الاقتصادية” أن السوق العالمية لمنتجات الصلب مستقرة في الوقت الحالي، على الرغم من عديد من الشكوك المتعلقة بمشكلات نقص الطاقة والتحديات اللوجستية وقضية عملاق العقارات الصيني شركة إيفرجراند والاتفاقيات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ويضيف “الطلبات الإقليمية قوية، ومن المتوقع أن يظل الطلب الإجمالي جيدا هذا العام، فقد تم تجديد المخزونات في الاتحاد الأوروبي وعاد الطلب إلى طبيعته، وكذلك العرض بعد تراجع جائحة كورونا بشكل كبير. هذا الوضع الإيجابي سيسود طوال العام حيث تبرز الاستثمارات في كثير من الأماكن، كما أن الصين تفي بوعدها للحد من إنتاج الصلب”.
وفي الواقع، فإن كثيرا من الخبراء يراقبون عن كثب قرارات الصين في مجال صناعة الصلب، إذ يتوقع أن تشهد الأعوام الخمسة المقبلة نمو مستويات الإنتاج في البلاد، ولكن بمعدل أقل كثيرا مما كان عليه الوضع في الأعوام الأخيرة، حيث تشير أغلب التكهنات إلى أن حصة الصين من إجمالي الإنتاج العالمي ستنخفض وإن كان بشكل طفيف، ويعود هذا إلى الضغوط الدولية على بكين لمراقبة الصناعات شديدة التلوث بما في ذلك صناعة الصلب وما لها من تأثير على المناخ والبيئة.
على الرغم من هذا، فإن معظم التقديرات تؤكد أن أحجام إنتاج الصلب العالمية ستظل قوية في 2022، وستستفيد شركات الصلب حول العالم من هوامش الربح العالية وإن كانت متناقصة.
ويقول لـ”الاقتصادية” مايكل كابلدي، المدير التنفيذي في جمعية الصلب العالمية، “ارتفاع الاستهلاك يعكس الطلب المكبوت على المستوى العالمي، إضافة إلى سياسات التحفيز، سواء من رصد صندوق الانتعاش الأوروبي مبلغ 750 مليار دولار أو فاتورة البنية التحتية في الولايات المتحدة، التي بلغت 559 مليار دولار، وزيادة الاستهلاك العالمي في السلع المعمرة والسيارات وتوسع العمليات الإنشائية في عديد من الاقتصادات الناشئة، كل ذلك يمثل ضمانات لأوضاع إيجابية لتجارة الصلب العالمية”.
أما بشأن الصين فإن مايكل كابلدي يرى أن إنتاج هذا العام والأعوام المقبلة سيستمر في التراجع، وسيكون أقل من مستويات 2021، بهدف منح صناعة الصلب مساحة أكبر للتحول إلى صناعة منخفضة الكربون، إضافة إلى أن الطلب المحلي على الصلب كان في اتجاه هبوطي، حيث إن التوسع الحضري في الصين يقترب من الاكتمال، وقد أصدرت السلطات الصينية تعليماتها لمصانع إنتاج الصلب بتخفيض الإنتاج، وفي أفضل الأحوال لن يتجاوز إنتاجها لهذا العام معدل الإنتاج في العام الماضي.
ويرى بعض الخبراء أن صناعة الصلب على المستوى العالمي تتمتع الآن بظروف جيدة تمكنها من إعادة ترتيب أوراقها بما يسمح لها بمستقبل إيجابي، فقد سمحت الأرباح والتدفقات النقدية الاستثنائية التي تم تحقيقها في 2021 بسبب عودة الانتعاش للاقتصاد العالمي، لعديد من الشركات الكبرى في صناعة الصلب من سداد ديونها، والمضي قدما في عمليات دمج أو تحسين استثماراتها لتحقيق النمو الاستراتيجي، وتلك التطورات تسمح لها بتحسين أوضاعها لمواجهة فترات الركود الدورية المستقبلية.
يتضح هذا الوضع الإيجابي لشركات صناعة الصلب في عدد من الدول أبرزها الولايات المتحدة، إذ ترى شركات الصلب الأمريكية أن الطلب سيظل قويا هذا العام، ما يحافظ على الأسعار مرتفعة ويحفز الاستثمارات ويصنع طفرة في صناعة الصلب الأمريكية التي تبلغ قيمتها الإجمالية 180 مليار دولار.
ورغم هذا، فإن مخزونات الصلب الأمريكية لا تزال منخفضة، نتيجة انقطاع المصانع عن الإنتاج لبعض الوقت بسبب جائحة كورونا، إضافة إلى اختناقات النقل ومشكلات سلاسل التوريد، ما جعل مشتري الصلب على أهبة الاستعداد للحصول على أي إمدادات متاحة لضمان توفر احتياجاتهم لفترة طويلة مقبلة.
ويشير المهندس إيان مولن، الخبير الاستشاري في المجموعة البريطانية للصلب إلى أن انتعاش الأسعار في جميع أنحاء العالم وتحطيم الأرقام القياسية يدفع بالاتحاد الأوروبي إلى زيادة إنتاجه السنوي بأكثر من 15 في المائة، وستعزز ألمانيا وإيطاليا موقعهما كمنتجين خلال الفترة المقبلة، خاصة مع استخدامهما تكنولوجيا حديثة تعمل على إزالة الكربون من عملياتهم الإنتاجية، وسيكون هناك تركيز أكبر على ما بات يعرف بـ”الفولاذ الأخضر” منخفض الانبعاثات.
ويعتقد المهندس إيان مولن أن أبرز التغيرات، التي ستشهدها أسواق الصلب تتمثل في بروز نجم الهند كلاعب متزايد القوة في أسواق الصلب العالمية.
ويقول لـ”الاقتصادية”: سيستمر الإنتاج الهندي في الارتفاع خلال الأعوام الخمسة المقبلة بسبب الاستثمارات الكبيرة، التي تضخ في صناعة الصلب، تلك الاستثمارات مكنت الهند من استخدام تكنولوجيا حديثة في هذا مجال الإنتاج، ما يجعلها أقل عرضة للضغط الدولي، فيما يتعلق بالانبعاثات الكربونية، مقارنة بالصين على سبيل المثال.
ويضيف “كما أن عمليات التحديث للمدن والبلدات الهندية ومحاولة منافسة الصين صناعيا، سيؤدي إلى زيادة استهلاكها من الصلب، بحيث ستتفوق على اليابان، خاصة أن إعادة الهيكلة في صناعة الصلب اليابانية يؤدي إلى نمو الإنتاج بشكل ضعيف في المدى المتوسط، ويستبعد أن يتجاوز إنتاج اليابان 100 مليون طن خلال الأعوام الخمسة المقبلة”.
إلا أن تلك الآراء الإيجابية حول أسواق الصلب والفولاذ هذا العام لا تنفي وجود تحليلات أخرى تتوقع أن تنخفض أسعار الصلب العالمية هذا العام إلى 750 دولارا للطن وربما أكثر من ذلك.
كيلي تومي المحللة المالية في مجموعة “سي كا” المالية تتوقع أن تنخفض الأسعار من 950 دولارا للطن إلى 750 دولارا للطن، وستصل، وفقا لتقديراتها إلى 535 دولارا للطن خلال الفترة من 2023 إلى 2025.
وتعلق لـ”الاقتصادية” قائلة “نتوقع أن يؤدي مزيج من تباطؤ نمو استهلاك الصلب في الصين في العقد المقبل، مقارنة بالعقد السابق، نتيجة تحول الاقتصاد الصيني من الصناعات الثقيلة إلى قطاع الخدمات، وزيادة الحمائية في سوق الصلب العالمية إلى زيادة الإنتاج في البلدان المتضررة، ما سيدفع الأسعار إلى الانخفاض”. وتضيف “هناك تفاؤل كبير بشأن خطة البنية التحتية التي وضعها الرئيس الأمريكي جو بايدن وأيضا الخطط الأوروبية، لكن الطلب فيها على الصلب ليس كبيرا لدفع الأسعار لأعلى”. وتعتقد المحللة كيلي تومي أن تباطؤ مصانع الصلب في استعادة عافيتها الإنتاجية في بداية العام الماضي، أوجد مستوى من الذعر والهوس بين مستهلكي الصلب، خاصة الصناعات كثيفة الاستخدام للصلب مثل صناعة السيارات، التي اشترت كميات كبيرة من الصلب والفولاذ خلال النصف الثاني من العام الماضي، استعدادا لقفزات ضخمة في الإنتاج، لكن نقص الرقائق الإلكترونية أضعف قدرتها الإنتاجية، ومن ثم بات لديها مخزون ضخم من الصلب والفولاذ الآن، وسيؤدي ذلك إلى تراجع طلبها خلال هذا العام، ومن ثم يتوقع أن تنخفض الأسعار المستقبلية للصلب والفولاذ.