جينفر بلاس تكتب: أزمة الديزل أشدّ وطأة على العالم من ارتفاع أسعار النفط
بوابة الاقتصاد
عُرف عن ونستون تشرشل مقولته الشهيرة التي أطلقها على روسيا في عام 1939، بأنها سلسلة من الطبقات: لغز يلفه لغز آخر، وهي أشبه إلى حد كبير بدُمية الماتريوشكا. بالنسبة إلى سوق النفط في عام 2022، يبدو الأمر مشابهاً لهذا الوصف إلى حد ما: سوق خام محكم، مطوق بسوق لقيم ومواد أولية نادرة، وفوقه سوق ديزل في وضع متأزم.
يجذب خام برنت وخام غرب تكساس المرجعيان اهتمام الأسواق المالية. ومع ذلك، لا يشتري المستهلكون العاديون، وهم الأسر والشركات، النفط الخام؛ بل يشترون المنتجات البترولية المكررة، مثل الديزل والبنزين. واليوم، لم يعد هناك الكثير من الديزل الذي يُشترى.
إنها مشكلة كبيرة، إذ يمثل الديزل، العمود الفقري للاقتصاد العالمي، وهو الوقود الذي يضمن استمرارية عمل الشاحنات الكبيرة والصغيرة والحفارات والآليات الثقيلة وقطارات الشحن والسفن. ارتفعت أسعار الجملة والتجزئة للديزل الأسبوع الماضي إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، متجاوزة الذروة التي تم تسجيلها في عام 2008.
ففي الولايات المتحدة، ارتفع متوسط أسعار التجزئة للديزل إلى أكثر من خمسة دولارات للغالون، للمرة الأولى على الإطلاق. وفي المملكة المتحدة، يتم بيعه بأكثر من 1.70 إسترليني للتر الواحد، أي ما يعادل أكثر من 8.5 دولار أمريكي للغالون. تكمن أهمية هذه الزيادة في انتشار الديزل في مناحي الحياة الحديثة. ونظراً لكونه وقود النقل، فإن ارتفاع الأسعار سيؤثر على الجميع، ما يزيد من ضغوط التضخم الذي وصل بالفعل إلى أعلى مستوياته منذ عقود عدة. الارتفاع الصاروخي في أسعار الديزل، أكثر من تكلفة النفط، لا بد أنه سيكون مصدر القلق الرئيسي للبنوك المركزية.
أعلى استهلاك
الوضع السيئ لإمدادات الديزل، جاء قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا. ورغم أن الطلب العالمي على النفط لم يصل بعد إلى مستوى ما قبل جائحة كورونا، إلا أن الاستهلاك العالمي للديزل ارتفع إلى مستوى قياسي جديد هو الأعلى على الإطلاق في الربع الأخير من عام 2021. وتعكس هذه القفزة في الأسعار، التعافي الاقتصادي غير المتوازن نتيجة تفشي وباء “كوفيد”، وذلك مع ارتفاع الطلب على النقل لتخفيف حالة الاضطراب التي شهدتها وتشهدها سلسلة الإمداد.
عانت المصافي الأوروبية من أجل مواكبة هذا الانتعاش في الطلب، ويُعد أحد الأسباب الرئيسية لهذا الأمر، ارتفاع تكلفة الغاز الطبيعي. فالمصافي تعتمد على الغاز لإنتاج الهيدروجين، والذي تستخدمه بعد ذلك لإزالة الكبريت من الديزل. وقد أدى الارتفاع الحاد لأسعار الغاز في أواخر عام 2021، إلى جعل هذه العملية مرتفعة التكلفة، ما أدى إلى خفض إنتاج الديزل.
كذلك هناك نقص في المعروض من النفط الخام منخفض الكبريت، إذ إن دول “أوبك+” التي تضخ هذا النوع من النفط، مثل نيجيريا وأنغولا، غير قادرة على زيادة الإنتاج. ولا بد أن يأتي أي إنتاج إضافي من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لكن معظم إنتاج البلدين من الخام، يأتي بنسبة كبريت عالية.
انخفاض خطير
تراجعت مخزونات الديزل قبل اندلاع الحرب إلى مستويات متدنية بشكل خطير، لا سيما في الولايات المتحدة ومراكز النفط الأوروبية في “أنتويرب” و”روتردام” و”أمستردام” (آرا)، (ARA). وهبطت مخزونات الديزل في الولايات المتحدة خلال الأسبوع الماضي إلى أدنى مستوى موسمي لها منذ 16 عاماً، فيما وصلت المخزونات في “آرا” إلى أدنى مستوى موسمي منذ 14 عاماً.
الصراع الجاري في أوكرانيا حالياً يفاقم الوضع السيئ ليصبح أسوأ بكثير. تُعد أوروبا أكبر منطقة تعاني عجزاً في الديزل على مستوى العالم، وتعتمد القارة على الإمدادات الروسية لسد الفجوة. فواردات أوروبا من الديزل القادم من وريثة الاتحاد السوفييتي السابق، بلغت 685 ألف برميل في 2019، أو ما يعادل حوالي نصف إجمالي واردات القارة في ذلك العام والبالغة نحو 1.4 مليون برميل. وجاءت 285 ألف برميل أخرى من المملكة العربية السعودية. وتُعد أوروبا أيضاً مركزاً عالمياً لتسعير الديزل، ولذا فإن كل ما يحدث فيها، يتردد صداه في جميع أنحاء العالم.
تمثل خسارة الإمدادات الروسية أزمة حادة بشكل خاص بالنسبة إلى شمال ألمانيا، الذي يتلقى الشحنات الروسية المحمّلة بحراً مباشرة عبر هامبورغ وموانئ أخرى. وتظهر انعكاسات الأزمة من خلال الارتفاع القياسي الجديد الذي سجّلته أسعار الديزل الأوروبية بالجملة الأسبوع الماضي، وقفزت رسوم الديزل للتسليم الفوري بشكل حاد، متجاوزة في أحد الأوقات 100 مرة الأسعار في الأوقات العادية، الأمر الذي يعكس التضييق الشديد.
نقص ملموس
ازداد الوضع سوءاً نظراً لأن أوروبا لا تستورد الديزل الجاهز من روسيا فحسب، بل تستورد أيضاً الزيت شبه المعالج الذي تخضعه للمزيد من عمليات التكرير بهدف إنتاج الديزل. ونظراً لعدم وجود تلك المواد الأولية، بما في ذلك زيت الغاز والوقود المتدفق مباشرة، تُضطر بعض المصافي لوقف الإمدادات. وبدأت كل من شركتي “شل” (Shell) و”أو إم في” (OMV) تقييد إمداداتهما بالجملة. وقالت “أويل إكس” الشركة الاستشارية “أويل إكس” (OilX) لعملائها، إنها ترى “خطراً حقيقياً يتمثل في حدوث نقص ملموس في الديزل بأوروبا”. وعلى المستوى الخاص، يرى تجار وشركات النفط الشيء ذاته. ولا أحد يريد أن يدق ناقوس الخطر، خوفاً من التدافع نحو محطات الوقود. لكن القلق ينتاب الجميع للغاية.
إذا لم تتغير الأمور، فقد تحتاج بعض الدول الأوروبية بحلول أوائل أبريل المقبل، إلى تقييد مبيعات الديزل للحفاظ على الإمدادات.
بالنسبة إلى الصين، التي تعد مُصدّراً رئيسياً للديزل ويمكن أن تمدّ يدها للإنقاذ، فإنها تعمل بدلاً من ذلك على خفض مبيعاتها الخارجية لتوفير الوقود في الداخل. وحتى المملكة العربية السعودية، وهي مورّد رئيسي للديزل إلى أوروبا، تشتري الآن، ولا تبيع.
الوقود الحيوي
تواجه أوروبا مشكلة أخرى أيضاً. فالقارة تشكّل حوالي ثلث الإنتاج العالمي للديزل الحيوي. ولكن مع توقف صادرات الزيوت النباتية الأوكرانية تقريباً بسبب الغزو الروسي، ارتفع سعر زيت بذور اللفت، الذي يعد مكوناً رئيسياً للديزل الحيوي، ما عرّض الإنتاج الأوروبي للخطر في أسوأ وقت ممكن.
تمتلك أوروبا والولايات المتحدة عدداً من الأدوات التي يمكن اللجوء إليها. فبالإضافة إلى احتياطيات النفط الإستراتيجية، يمتلك كلاهما احتياطيات من الديزل وزيت التدفئة يمكن طرحها في السوق لتخفيف النقص. وفي أوروبا، يتعين على الحكومات أن تنتهج نهجاً استباقياً في هذا الصدد. وفي العام الماضي، تباطأت الحكومة البريطانية للغاية في التعامل مع أزمة نقص الوقود، وعندما أقدمت على الاستجابة، كان الأوان قد فات.
يولي صانعو السياسة الغربيون جُلّ انتباههم للشاشات التي تظهر سعر النفط، ولكن عليهم التركيز بدلاً من ذلك على الديزل. فإذا كان هناك أي شيء سوف يصيبه الدمار قريباً في سوق المواد البترولية، فإن الديزل هو المرشح الأكثر ترجيحاً.
المصدر بلومبيرغ