اقتصاد العالم يتصدر ضحايا الحرب الروسية… الانكماش أصبح واقعا
بوابة الاقتصاد
ارتباك شديد بأسواق السلع مع ارتفاع قياسي بأسعار الطاقة وخسائر تتجاوز تريليون دولار
فيما لم يتخلص الاقتصاد العالمي من تداعيات جائحة كورونا حتى الآن، فقد جاءت الأزمة الروسية الأوكرانية لتعيده إلى المربع صفر، بخاصة مع توقعات بحدوث انكماش عنيف ومخاوف من ركود تضخمي يلوح في الأفق.
وكشفت ورقة بحثية حديثة عن أن خسائر الحرب الروسية في أوكرانيا لم تتوقف عند حدود البلدين، بل سوف تنتقل إلى أوروبا وباقي دول العالم. وبحسب التقييمات الأولية، سيتكبد الاقتصاد العالمي خسائر تُقدر بنحو تريليون دولار، في شكل انكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو واحد في المئة بنهاية عام 2022، مع زيادة التضخم العالمي بنحو ثلاث نقاط مئوية خلال هذا العام، وذلك في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي اختناق سلاسل الإمداد والتوريد، وتزايد حدة أزمة الطاقة، وارتفاع أسعار الغذاء، فضلاً عن أزمة الديون العالمية المتفاقمة. ومن هذا المنطلق، يناقش هذا التحليل التداعيات المحتملة للغزو الروسي لأوكرانيا على استقرار الاقتصاد العالمي.
وأوضح الدكتور أنس جاب الله، الباحث الاقتصادي بجامعة القاهرة، في دراسته البحثية، أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا يفرض تداعيات سلبية عديدة على الاقتصاد العالمي، وهي عُرضة للتفاقم مع طول فترة الحرب ونطاقها، وتشديد العقوبات الغربية على موسكو، وحال فرض الأخيرة أيضاً عقوبات مضادة على الغرب.
خسائر تتجاوز تريليون دولار
أول المخاطر التي تنتظر الاقتصاد العالمي تتمثل في تراجع معدلات النمو، حيث أربكت الحرب الحالية في أوكرانيا الاقتصاد العالمي بشكل غير مسبوق، وأضعفت من ثقة المستثمرين والمستهلكين في النشاط الاقتصادي العالمي، وسط ارتفاع تكاليف أسعار السلع الأساسية ومنها الطاقة والغذاء، وارتفاع تكاليف المعيشة للعديد من الأسر حول العالم.
وفي ظل تطورات الحرب الحالية، خفضت الصين، أحد المحركات الرئيسة للاقتصاد العالمي، معدل نموها المستهدف في عام 2022 إلى 5.5 في المئة مقارنة بنحو 8.1 في المئة خلال العام الماضي، الأمر الذي سيسفر عنه، إلى جانب التراجع المُحتمل للاقتصادات الأوروبية، انخفاض الناتج الإجمالي العالمي بأكثر من واحد في المئة خلال العام الحالي مع استمرار تراجعه خلال عام 2023، مع مواجهة خسائر تقدر بنحو تريليون دولار.
الخطر الثاني يتمثل في صعود قوي لأسعار النفط، وقد شهدت أسعار النفط ارتفاعاً قوياً في ظل التطورات الأخيرة؛ حيث صعدت أسعار خام “برنت” لأعلى مستوياتها منذ عام 2008، لتسجل قرابة 130 دولاراً للبرميل خلال الأسبوع الثاني من الشهر الحالي، فيما تم تداول 200 عقد آجل لخام “برنت” تسليم مايو في البورصة الأوروبية عند مستوى قدره 200 دولار للبرميل. وفي ضوء الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، سترتفع احتمالات حدة التقلبات في أسعار النفط، لتتراوح بين 100 و200 دولار للبرميل.
أما الخطر الثالث فيتمثل في ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بنسب قياسية، حيث أدت الحرب الأوكرانية إلى ارتفاع كبير في أسعار الغاز في أوروبا مع تنامي المخاوف وعدم اليقين بشأن مستقبل إمدادات الغاز الروسية عبر خطوط الأنابيب إلى الأسواق الأوروبية، بخاصة مع تعليق ألمانيا المصادقة على تشغيل خط “نورد ستريم 2”. وفي حال استمرار الحرب الحالية، قد تشهد أسعار الغاز موجة جديدة من الارتفاعات، بخاصة مع زيادة إقبال المستهلكين الأوروبيين على شراء المزيد من شحنات الغاز الطبيعي المُسال من السوق الفورية، لضمان تأمين مخزونات كافية.
ارتباك شديد في أسواق السلع
في سوق السلع، شهدت أسعار القمح ارتفاعاً حاداً بنسبة بلغت 40 في المئة لتصل إلى 396 دولاراً للطن، وهو أعلى مستوى لها منذ 14 عاماً، فيما ارتفعت أسعار الذرة بنسبة 21 في المئة نتيجة لتعطل حركة الصادرات الزراعية من أوكرانيا، بسبب التدخل العسكري الروسي. ومن المتوقع حدوث زيادات إضافية في تكلفة الغذاء على المستوى العالمي، بخاصة مع ارتفاع أسعار الأسمدة مع زيادة أسعار الغاز الطبيعي، واحتمالية تعطل إمدادات الأسمدة من روسيا.
ويتمثل الخطر الخامس في تزايد الضغوط على قطاعي الطيران والسياحة، حيث أدى التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى حظر واسع للطيران في كل من روسيا وأوكرانيا، وإغلاق عدة دول مجالها الجوي أمام الخطوط الجوية الروسية، ما تسبب في إنشاء مناطق محظورة ضخمة وزيادة وقت الرحلات الجوية الدولية؛ وهو ما سينجم عنه حدوث زيادة في التكاليف التشغيلية لشركات الطيران الروسية بنحو 25 ألف دولار لكل رحلة ذهاباً وإياباً. كما ألغت كبرى الشركات السياحية البحرية جميع رحلاتها المستقبلية إلى روسيا، الأمر الذي قد يعيد تشكيل خريطة الطيران والسياحة عالمياً.
وبسبب الأزمة الأوكرانية، فقد تم تكريس أزمة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية في البحر الأسود. وفي ضوء الحرب الراهنة، تم تصنيف البحر الأسود منطقة مرتفعة الخطورة بداية من الشهر الحالي، مما أدى إلى رفع أقساط التأمين المطلوبة لشحن البضائع، وتأخر الشحنات، وازدحام الموانئ، فضلاً عن تعطيل خطوط إنتاج السيارات بسبب ارتفاع مخاطر نقص الرقائق بين شركات صناعة السيارات في روسيا، حيث تعتبر الأخيرة ثالث أكبر مورّد في العالم للنيكل المُستخدم في صناعة بطاريات الليثيوم، كما توفر 40 في المئة من البلاديوم، في حين يأتي 90 في المئة من مواد النيون المطلوبة لصناعة أشباه الموصلات من أوكرانيا، الأمر الذي يضيف المزيد من العراقيل أمام سلاسل التوريد الضعيفة بالفعل.
أما الخطر السابع فيتمثل في تفاقم أزمة الشحن والنقل العالمي للبضائع، وقد أدت الحرب الأوكرانية وما صاحبها من تعطل النقل في البحر الأسود وبحر البلطيق، إلى ارتفاع أسعار “نوالين” الشحن البحري بنحو ستة أضعاف في عام 2022 مقارنة بعام 2019، وزيادة أسعار تأجير السفن بنسب تخطت 20 في المئة، علاوة على ارتفاع الرسوم المُقررة لكل الخدمات المرتبطة بسوق النقل البحري، وارتفاع وقود النقل البحري لارتباطه بأسعار النفط؛ الأمر الذي سينعكس في زيادة أسعار البضائع عالمياً خلال الفترة المقبلة.
ركود تضخمي يلوح في الأفق
وتسببت الحرب في وجود حالة من التخبط في أسواق المال العالمية التي شهدت اضطراباً حاداً في مختلف الأسواق الدولية في ظل موجات بيع الأسهم العالمية وعزوف المستثمرين عن شراء الأسهم، بالإضافة إلى الانخفاض الواسع النطاق في عوائد السندات. وتواكب ذلك أيضاً مع استبعاد الأسهم الروسية من مؤشري “ستاندرد أند بورز” و”داو جونز”.
ويتمثل الخطر التاسع في ظهور شبح الركود التضخمي، ففي ظل الحرب الدائرة، تتصاعد بشدة مخاطر حدوث ركود تضخمي في العالم، حيث شهدت أسعار السلع والمعادن والطاقة والحبوب ارتفاعات قياسية وسط تراجع آفاق نمو الاقتصادات العالمية. ويتوقع المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا، أن الحرب في أوكرانيا قد تضيف ثلاث نقاط مئوية إلى التضخم العالمي المُتفاقم بالفعل، بينما قد تمحو واحداً في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي هذا العام.
ومن المتوقع أن تفرض الأزمة تكاليف إضافية، حيث من المرجح أن تضيف أعباءً أخرى أمام الاقتصاد العالمي، بخاصة مع تزايد أعداد اللاجئين الأوكرانيين للدول الأوروبية المجاورة، والتوقعات بزيادة حجم الإنفاق العسكري بخاصة لدول أوروبا، وتسريع وتيرة استخدام العملات الرقمية جنباً إلى جنب مع التصاعد المُحتمل للهجمات الإلكترونية في العالم، والتغير المُحتمل للنظام التجاري العالمي في ضوء التطورات الأخيرة.
خروج رؤوس الأموال من أسواق الأسهم
ورجحت الدراسة أن تدفع أزمة التضخم المُمتدة في العالم، مع الارتفاع القياسي في أسعار الطاقة والغذاء، البنوك المركزية في معظم دول العالم إلى الإسراع من تشديد السياسات النقدية ورفع أسعار الفائدة في محاولة لكبح جماح التضخم. وسيبدو مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، بعد تطورات الحرب الحالية، أكثر استعداداً لاستخدام أدوات سياسته النقدية، للحيلولة دون تفاقم معدلات التضخم الحالية.
وفي هذا السياق، من المرجح أن يمضي الفيدرالي الأميركي قُدماً في خططه لبدء رفع أسعار الفائدة بداية الشهر الحالي، بمقدار ربع نقطة أساس في الأقل كما تم إعلانه في السابق، ثم إقرار أربع زيادات أخرى في الأشهر المقبلة خلال عام 2022. وليس مستبعداً أن يتخذ البنك المركزي الأوروبي إجراءً مماثلاً للفيدرالي الأميركي، على أن يقوم برفع أسعار الفائدة في القريب العاجل لاحتواء التضخم، في الوقت أيضاً الذي يدرس فيه هذا البنك إصدار مزيد من السندات لتمويل الحكومات الأوروبية ومساعداتها على مواجهة أعباء تكاليف تدفق اللاجئين وزيادة الإنفاق العسكري جراء الحرب الحالية.
لكن تشديد السياسة النقدية سيعمل بالتبعية في صالح تعزيز عوائد السندات الأميركية، وسيقابله خروج رؤوس الأموال الأجنبية من أسواق الأسهم والأدوات الثابتة في الأسواق الناشئة، مما سيفرض ضغوطاً إضافية على أسواق العملات العالمية. كما سيخلق رفع أسعار الفائدة مزيداً من الضغوط الاقتصادية على الدول المدينة والفقيرة؛ نظراً إلى ارتفاع تكلفة خدمة ديونها، فضلاً عن التباطؤ المتوقع لاقتصاداتها.
3 سيناريوهات متوقعة لآفاق الاقتصاد العالمي
ووضعت الدراسة ثلاثة سيناريوهات لآفاق الاقتصاد العالمي خلال الفترة المقبلة، الأول متفائل ويرتكز على فرضية أساسية وهي نجاح سلسلة المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني في خفض التوترات ومن ثم إنهاء الحرب الحالية، إلى جانب استمرار تدفق النفط والغاز الروسي إلى أوروبا مع استثناء قطاع الطاقة الروسي من العقوبات الأوروبية، على الرغم من تعرضه للعقوبات الأميركية. وفي ضوء ذلك، سيبقي التعافي الحالي للاقتصاد العالمي على مسار نموه الصحيح، مع انخفاض معدلات التضخم في منطقة اليورو والولايات المتحدة بنهاية عام 2022، لكن من دون شك سيطال الاقتصادات العالمية كل أضرار جانبية قصيرة الأجل لا يمكن تفاديها على أية حال بسبب هذه الحرب.
أما السيناريو الثاني فهو “حذر”، ويفترض أن فترة الحرب ستطول بين روسيا وأوكرانيا، مع احتمالية تعطل صادرات النفط والغاز الروسية إلى الأسواق الدولية بشكل جزئي، مما سينجم عنه استمرار ارتفاع معدلات التضخم في منطقة اليورو والولايات المتحدة. وستلجأ كبرى البنوك المركزية إلى تشديد سياستها النقدية ورفع سعر الفائدة بشكل أكبر حتى عام 2023؛ لمواجهة التضخم المُفرط. وفي ظل هذا السيناريو، من المتوقع انخفاض الناتج المحلي العالمي بشكل كبير.
فيما يعد السيناريو الثالث هو الأسوأ، وتقوم فرضياته على استمرار تصاعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا، واشتداد المواجهة بين موسكو والغرب لتشمل انقطاع صادرات النفط والغاز الروسية إلى الأسواق الدولية، مما سيؤدي إلى انخفاض كبير في الناتج المحلي الأوروبي والأميركي، بخاصة إذا تباطأت البنوك المركزية الرئيسة في اتخاذ ما يلزم من سياسات لاحتواء هذه الأزمة، ومن ثم سيكون الاقتصاد العالمي على شفا دخول مرحلة الركود التضخمي.
المصدر اندبندنت