د. ياسر عبدالعزيز يكتب: الأزمة الأوكرانية.. وتسليح العولمة
بوابة الاقتصاد
قبل عقدين من الزمن، كان الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق كوفى عنان يتحدث إلى طلاب وأساتذة جامعة ييل الأمريكية المرموقة عن العولمة، التى أظهر اهتماماً وشغفاً كبيرين، خلال فترة ولايته، بمحاولة تعزيز آثارها الإيجابية، واحتواء ما قد ينجم عنها من تداعيات ضارة.
ومن بين ما قاله «عنان» خلال حديثه آنذاك إن العولمة عبارة عن «تدفّق متزايد على الصعيد العالمى للسلع والخدمات، ورأس المال والتكنولوجيا والمعلومات والأفكار والأيدى العاملة».
وفى محاولته لتشخيص الهدف الأعلى الذى يبتغيه من شيوع العولمة وتعزيز آلياتها وتفعيل رؤيتها، اعتبر أن الوصول إلى حالة من «الاندماج والاحتواء» تمثل ذلك الهدف، على أن يجرى ذلك بطريقة تحدٍّ إلى أكبر درجة ممكنة من العواقب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية السلبية التى يمكن أن تنشأ عند تطبيقها.
تُعد تلك طريقة إيجابية ومتفائلة للتعامل مع مفهوم العولمة على الصعيد الأممى بكل تأكيد، ولاحقاً سيُنسب إلى كوفى عنان قوله إن «التشكيك فى العولمة أشبه بالتشكيك فى قانون الجاذبية»، وهو فى مقاربته تلك إنما يؤكد أن العولمة واقع عالمى لا يمكن دحضه من جهة، وأن فوائدها عظيمة وشاملة للمجموع الإنسانى من جهة أخرى، من دون أن ينفى تماماً إمكانية أن تنشأ أضرار جانبية عند تفعيل آلياتها الضخمة والمؤثرة من جهة ثالثة.
ستعرف العولمة لاحقاً الكثير من التشكيك واللغط، عندما تخرج الانتقادات والشكاوى من بلدان «الأطراف» النامية، خصوصاً عن التهميش والاستتباع لصالح دول «المركز» المتقدّمة، وستجتهد آليات أممية ومنظمات مجتمع مدنى وبعض الدول فى محاولات لإحداث التوازن بين إيجابيات العولمة من جانب وتداعياتها الضارة من جانب آخر، وسيكون الجميع متوافقاً -على الأقل من الناحية النظرية- على أن تفاعلات العولمة تحتاج إلى قدر وافر من الإنصاف، وإلى درجة من الاحترام للخصوصية والمصالح الوطنية ضمن سعيها الدائب لـ«الاندماج والاحتواء».
لكن الأزمة الأوكرانية التى يهتز العالم على إيقاعاتها الدامية حالياً، والتى تُصدّر إلى الجميع مشكلات وأزمات متفاوتة، وتعد بالمزيد من التكاليف والخسائر، كشفت عن جانب مغاير لما استقر عليه هذا المنظور الأممى الإيجابى تجاه العولمة.
فمن زاوية الأزمة الأوكرانية وما قادت إليه من تفاعلات على صعيد النزاع الروسى – الغربى، بدا أن العولمة تحولت إلى سلاح فى الحملة التى يشنّها الغرب ضد روسيا من أجل عزلها وتطويع سياساتها بشكل يخدم الرؤية الغربية فى النزاع الدائر حالياً.
نعم.. لقد أصبحنا بصدد حالة «تسليح للعولمة» (Weaponization of Globalization)؛ إذ يمكن القول إن الجانب الغربى، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، سعى خلال محاولته مواجهة السلوك الروسى العسكرى حيال أوكرانيا إلى تسخير آليات عولمية فى معركته، وهو فى سعيه ذلك حقق نتائج باهرة صبّت فى تعزيز قدراته خلال النزاع، لكنها من جانب آخر تركت أضراراً جانبية خطيرة على الآليات العولمية من جانب، ووضعت فكرة العولمة نفسها على المحك من جانب آخر.
فمن بين أهم سمات العقوبات المفروضة أخيراً على روسيا، أنها جاءت لتشمل قطاعات متنوعة سياسية، واقتصادية، وثقافية، وإعلامية؛ بل حتى رياضية، فى محاولة لفرض «نوع من العزلة» على روسيا، لمعاقبتها على قرارها بشن العملية العسكرية ضد أوكرانيا.
لقد بات واضحاً أن الخطة التى اعتمدها الغرب، وبنى قدراً لافتاً من التوافق عليها بين دوله المؤثرة، تهدف إلى عزل روسيا وخنقها، بما يؤدى أولاً إلى خسارتها معركتها العسكرية والسياسية ضد أوكرانيا، ويقود ثانياً إلى إضعافها استراتيجياً بالشكل الذى يجرّدها من القدرة على تحدى الإرادة والمصالح الغربية فى أى معترك أو محفل مستقبلى.
واختار الغرب لتحقيق استراتيجيته تلك وسيلة العقوبات التى شملت جوانب اقتصادية، ومالية، ورياضية، وفنية، وثقافية، وإعلامية، إلى جانب الوسائل العسكرية والسياسية.
إن اتخاذ مواقف سياسية حادة ضد الغزو الروسى لأوكرانيا لا يقوّض العولمة أو يُضعف تأثيرها، كما أن الانخراط فى معركة عسكرية ضد روسيا، أو تزويد الجانب الأوكرانى بالأسلحة والمقاتلين والمساعدات لا يشكّك فى مفهوم العولمة، لكن اعتماد آلية العقوبات التى تمتد من نظم التحويل المالية العالمية، وتشمل المشاركة فى المنافسات الرياضية، وتصل إلى حظر عمل وسائل الإعلام والتهديد بـ«قطع الإنترنت» هى إجراءات تضرب العولمة فى ركائزها الحيوية.
إن عزل روسيا سياسياً يمكن أن يُفهم على أنه محاولة غربية لمناصرة دولة ضعيفة تواجه غزواً من دولة تمتلك قدرات عسكرية عظمى، كما أن إدانتها فى الجمعية العامة للأمم المتحدة يمكن أن تفهم على أنها إجراء سياسى طبيعى يعكس إرادة أممية لحفظ السلم والأمن الدوليين ومناصرة استقلال الدول واحترام سيادتها، لكن استبعاد روسيا من نظام «سويفت» للتحويلات المالية، أو تجميد أموال المستثمرين الروس فى أوروبا، أو منع مشاركة الفرق الروسية فى المنازلات العالمية، أو عزل روسيا عن العالم عبر حجب وسائل إعلامها، كلها إجراءات تخصم مباشرة من رصيد عملية «الاندماج والاحتواء» التى يُراد للعولمة أن تجعل منها واقعاً عالمياً.
وبصرف النظر عن التقييم السياسى والأخلاقى للعملية العسكرية الروسية تجاه أوكرانيا، وأياً كان الموقف من ذرائع طرفى النزاع فى ما بات يُطلق عليه «الحرب الباردة» الجديدة، فإن تسليح آليات العولمة يمكن أن يثير الشكوك فى مفهومها ذاته، وأن يدعو أطرافاً بعيدة عن النزاع إلى إعادة التفكير فى «الاندماج والاحتواء» المطلوبين.
- نقلا عن “الوطن”