محمد حماد يكتب: سعد هجرس .. وفاء لرجل كان يأنس بالظل
اكتشفت بعد مرور الزمن أنى أميل أكثر إلى من يعزفون عن الأضواء، يأنسون في مناطق الظل، وكنت صغيرًا أقرأ في سير العلماء زهدًا في الشهرة، وطلبًا للخمول، حتى أن بعضهم كان يسأل الله ذكرًا خاملًا، وقد عرفت في حياتي كثيرين من هذه النوعية التي لا تفتنهم محبة الشهرة، يؤثرون المعيشة في خلفية الصورة، لا في مقدمتها، ومن بين هؤلاء كان الأستاذ سعد هجرس.
لم أجده يومًا في موقف الساعي إلى الأضواء، ولا الحريص على الظهور، وقد جاءته تسعى في أخريات حياته، فلم تغير في شخصيته أي شيء.
ما قربني إليه ـ وقد تعرف عليه في بيت سيدنا وأستاذنا محمد عوده ـ أنه يعيش كما يتكلم، هذا الفالق بين حياة المثقف وبين ما يعلنه من أفكار لا وجود لها على الحقيقة في معيشة سعد هجرس.
كان سعد هجرس من هؤلاء الذين يحرص محمد عوده على اللقاء بهم بعيدًا عن سهراته التي تكاد تكون يومية، وتضم الشامي والمغربي ومن كل أطياف الفكر والبشر.
وكان لي حظ أن أكون واحدًا من هؤلاء، رغم أنهم جميعًا كانوا يكبرونني في السن والمقام، وأغلبهم ممن زاملوا الأستاذ عوده في جريدة الجمهورية.
حتى الدعوات الخاصة في بيت أحد هؤلاء لم يكن عوده يمارس فيها هوايته المفضلة في اصطحاب من يشاء إلى تلك الدعوات، ومن بينها تلك الدعوة التي جاءتني على غير انتظار من الأستاذ سعد هجرس ولم تأتني من الأستاذ عوده الذي كثيرًا ما اصطحبني وغيري كثيرين إلى دعوات وزيارات إلى العديد من معارفه وأصدقائه.
فوجئت يومًا بالأستاذ سعد يحادثني على تليفون البيت ليدعوني إلى عشاء في منزله بمصر الجديدة أو مدينة نصر لست أذكر الآن، وذكر لي أسماء المدعوين الثلاثة الآخرين وعلى رأسهم أستاذنا محمد عوده الذي سعد جدًا بدعوتي، واتفقنا على موعد اللقاء تحت منزله بالقرب من ميدان الدقي لنذهب معًا إلى بيت سعد.
بعدها توثقت علاقتي بالأستاذ سعد أكثر فأكثر.
يكبرني الأستاذ سعد قرابة عشر سنوات، وحين قررت الالتحاق بأول دورة تدريبية على الكمبيوتر التي نظمتها نقابة الصحفيين، كنت أقدم رجلًا وأؤخر أخرى وأنا متوجه إلى أول يوم في تلك الدورة بمبنى النقابة المؤقت خلف قسم الأزبكية قرب ميدان رمسيس.
توقعت أن الزملاء الصحفيين من صغار السن والشباب وحدهم هم من يقبلون على هذه الدورة، وكنت أشعر وقد بلغت وقتها الأربعين من عمري ببعض الحرج بمنطق بعد ما شاب ودوه الكتاب، دخلت إلى قاعة التدريب وفيها المدرب وحوالي ثلاثة من الزملاء من شباب الصحفيين الذين استقبلوني بترحيب وأنا ما زلت أتعثر في خجلي.
قبل أن أجلس بدأ توافد الزملاء الآخرين الذين توجهوا إلى الجلوس على المقاعد المعدة للتدريب وبقي إلى جواري مقعد واحد ولم يمض وقت حتى فوجئت بالأستاذ سعد هجرس يجلس إلى المقعد المجاور لمقعدي، سألني إيه اللي جابك هنا وسألته السؤال نفسه، وتبادلنا الشعور بالراحة والأنس والرفقة الجميلة.
آخر مشهد بيننا كان على أرض ميدان التحرير، رأيته وقد رجع بالعمر عشرين سنة يضج حيوية وشبابًا وأملًا في مستقبل كان يخشى من أنه لن يواتي مراكب الثورة التي قذفتها الرياح إلى ما لم يتوقع طلاب التغيير.
رحم الله سعد هجرس الذي صدق مع أفكاره حتى رحل.